ادب وفن

"نصف للقذيفة".. وعسكرة الرواية / سمير حاجّ *

في نصف وطن عراقي غرائبيّ في عالم تخييليّ ، مسكون بأعراس الدمّ والخراب والموت الجماعي والرعب والاغتراب والجثث اللامتناهية ، على غرار مطوّلة ت. س . إليوت:
"… مدينة الوهم،
تحت الضباب الأسمر من فجر شتائي،
انساب جمهور على جسر لندن، غفير،
ما كنت أحسب أن الموت قد طوى مثل هذا الجمع....".
تقدّم سمية الشيبانيّ، في روايتها "نصف للقذيفة" صوتا نسويا واعيا وفعّالا، كوزموبوليتّيا بامتياز، يتكئ على الموروث الدينيّ في اختيار أسماء شخصيات ذات طابع سيميائي، ويتأتّى السّرد بأسلوب طافح بالسخرية المرّة، غضبا واحتجاجا على واقع مرّ.
ينهال السرد المترع بالتساؤلات والمونولوغات، من فم ساردة تدعى "مريم"، تعود في الطائرة من زيارة اختها في عمان عام 1991، إلى العراق قبيل الاحتلال الأمريكي. وفي الطائرة تتعرّف إلى "آدم" وهو صحافي أمريكيّ "نصف عراقي"، جاء إلى العراق في مهمّة صحافية، وتتزوّجه في ما بعد. والحدث الصادم أنّ أحمد أخ صديقتها "زينب" يقوم بعمل انتحاريّ، ويفجّر مريم وآدم وهما في السيارة التي تقلّهما إلى المطار، لمغادرة العراق.
في هذا العمل التخييليّ، تشكّل الحرب ثيمة بارزة وتقنيّة فنيّة، وفضاء لبناء العالم الروائيّ المبتور من الواقع، خاصة النصّ الموازيّ أو ما يسمّى عتبات الرواية، فالعنوان "نصف للقذيفة" عسكريّ بامتياز، كما أنّ الأيقونة والإهداء، يحملان رؤى ودلالات حربية، ويشكّلان شيفرات لفكّ النصّ الروائي المسكوب بالحبر الأحمر، وبأسلوب فجائعي، على 300 صفحة.
في "نصف للقذيفة" تقدّم الروائية والإعلامية العراقية سمية الشيباني، وطنا مشظى غارقا في الدماء والحرائق ومحتلا بجيوش غريبة وجماعات مسلّحة، وشوارع ملآى بالروائح النتنة، وشعبا مسكونا بالرعب والكوابيس قبل وبعد الاحتلال، غير منتم إلى وطنه بعد أن احتله الغرباء وسيطرت عليه العصابات، وكما تقول مريم في خاتمة الرواية "لا أريد أن أبقى هذا ليس وطني الذي أعرفه، وهؤلاء لا أعرفهم".
بعيدا عن أرض النخيل ومن صباح لندنيّ بارد وماطر، تبدأ مريم السرد، المختلط بالاسترجاعات، من المسافة الضيّقة، الممتدة بين غرفة النوم وشباك المطبخ، لكوابيس وأحداث دامية في تاريخ وطنها، تفاصيل مشاهد الموت العراقيّ النازفة من الصحف المنشورة على شاشة الكمبيوتر. القلق والخوف من الجديد الآتي يفتّت تفكير المرأة العراقية في صقيع المنافيّ، بعد أن شرختها الحروب المتوالية على وطنها، لتصبح الأرقام الحسابية والأعداد التي تحصي حروب وطنها هويتها الوحيدة "هكذا حين أنظر إلى البعيد فأشعر بأنّني من وطن المائة حرب. هل هذا وصف كاف ليعرف العالم من أنا؟ الحروب في داخلي أكثر من الحروب في وطني الغارق في الدم، الذي لم يستقر منذ عشرات السنين، بل عشرات العصور والأجيال، وربما منذ خلقت الأرض، كل الذين قرروا أن يموتوا أو يقتلوا أو يضيعوا أو يفقدوا عقولهم، قصدوا وطني. وكأن الكون خلا من بقعة تستقبل موتهم، كأن العراق خلق للنهايات".
في عالم متخيّل، يتكئ على معمار فنيّ وهندسة تقنية عالية، ولغة جميلة، مداميكها حروف مشلوخة من تاريخ دمويّ تكتب صاحبة "حارسة النخيل" الوجع العراقي بأحداثه وقصصه المرعبة، المحفورة في الذاكرة الجماعية للشعب العراقيّ . والمرأة هي الأكثر معاناة، تجترح المأساة والقهر والأشباح، وتستشرف الأمل وتشيّد الحب جسرا للخلاص، وتبحث عن "تموزها" وسط الركام، لتبعث فيه الحياة ولتحيي الأرض والزرع، فتصرخ مريم في وجه العالم المشارك في دمار شعبها: "هكذا نحن، نصف شعب، وأنا نصف مواطنة، والحروب علّمتنا كيف نكتفي بنصف وجبة طعام، ونشرب نصف الكأس ونجلس بنصف الغرفة، ونترك النصف الآخر للقذيفة. لقد اعتدنا على أنصاف الأحلام وأنصاف الأمنيات وأنصاف الحلول وأنصاف الأبناء، وقريبا سيتحدث العالم عن معجزة تحدث في العراق، ظاهرة إنجاب انصاف أطفال، لأنّنا نمارس نصف الحب لننجب نصف طفل، وليكتفي بنصف رضعة ويقبل بنصف أمّ".
بعد الفجيعة والدمار والفقدان تقتنع مريم بالتخلّي عن وطنها والهرب منه. لكنّ القذيفة مزّقتا هي وزوجها آدم داخل وطنها، تأكيدا على فشل الهرب من الوطن وفشل خيار المنفى.
من منظور مريم يتشظّى الوطن الفيزيقيّ بالقذائف، وتتلاشى الهويّة ويغيب الانتماء، وفي المقابل والنقيض يفشل مشروع الهرب والاغتراب. والمرأة مثل وطنها تعيش في ذعر ومعاناة دائمة وتصدّع نفسيّ، فمريم بسبب انهيارها وذعرها تلاشى نصفها، وأصبحت نصف امرأة، مثل نصف جسد أخيها إبراهيم، تعيش في نصف وطن نصف حياة، هذا ما تفضي به في مونولوغها "وأنّني الآن نصف امرأة، تحيا بنصف حياة، لسنا سوى أنصاف نهيم على وجوهنا بحثا عن أنصافنا الأخرى. شعب بكامله يركض باحثا عن أنصاف أو هاربا من أنصاف، نصف سماء فوق رؤوسنا، وننام بنصف عين، أطفالنا يذهبون صباحا إلى مدارسهم بنصف حذاء، ونتعلم نصف لغة، ونقرأ نصف الخبر في الصحيفة، أصبح بين ضلوعنا أنصاف قلوب تمنح نصف المحبة، إنّنا أنصاف بشر لسنا سوى أنصاف، لماذا أعيب على أحمد أن يتوسّل بي كي أكون نصف حبيبة؟ صدام نصف رئيس، ونحن نصف شعب..".
إنّ مريم تعيش كوابيس العراق، كما أنّ الكوابيس تعيش داخلها وهي تسفح أفكارها من خلال مونولوغات تنثال في غرف مغلقة ذعرا، والمونولوج وليس الديالوغ، هو الوسيلة الوحيدة للسرد وسفح الأفكار والتساؤلات الوجودية في العراق، بعيدا عن المخبر والرقيب والسّفاح.
للمرأة العراقية حضور فعّال وجريء أثناء الحرب، فهي صبورة وجبّارة، رغم سيطرة الموت والرعب على حياتها، هذا ما تقوله مدرّسة عراقية تواجه كاميرات الصحافيين وتصرخ أمامهم "دعوا العالم يراني بهيئتي البالية هذه، صوروا عباءتي المهترئة، هل العالم يسمع ما أقول، منذ فتحت عيني على الدنيا وأنا أهرب من الموت، إنّني أناقض نفسي حين أقف لأعلّم تلاميذي فكرة الحياة، أين هي الحياة؟ ثلاثون عاما وأنا أهرب من الموت، لا أذكر متى غسّلت وجهي آخر مرة".
تتعدى الرواية النهاية المأساوية إلى ما بعد الموت، حيث تصف حالها التعيسة ولا مبالاة الناس بجثتها، أي بأسلوب غرائبيّ في الميتاموت، بعد أن انسلخت الروح عن الجسد، احتجاجا وخيبة أمل ورفضا للمسلّمات، في مجتمع غير مبال بحياة أبنائه، ممّا أضعف الناحية الفنيّة للرواية، وسرق اندهاش المتلّقي، الذي هو ذروة العمل الروائيّ. كان على الكاتبة أن تنهي روايتها، دون الصفحتين الأخيرتين، والتقليل من الأفكار المباشرة، التي أتعبت النصّ الروائي وأثقلته.
"نصف للقذيفة" ذات المرجوع الحسابيّ الجزئيّ، إشارة إلى تجزئة الإنسان والوطن، صوت جميل يحمل رؤية علمية تحذّر من اندثار الإنسان وتدمير المكان وتشويه تاريخه.
في هذه الرواية تتقاطع مريم بأفكارها مع شخصية مريم في رواية "يا مـــــريم" للكاتب والباحث سنان أنطون، ومع وردية إسكندر في رواية "طشّاري" للكاتبة إنعام كجه كجي، في رؤية الوطن طاردا ومفترسا لأبنائه، كما كتب جيمس جويس.
ـــــــــــــــــــــ
٭ كاتب فلسطينيّ