ادب وفن

«أحببت حمارا» تجريب روائي، تجليات جمالية / هشام آل مصطفى

يميل الشكل الفني البلاغي للرواية تحديدا نحو ايجاد لغة شعرية قصيرة الجمل موجزة المعنى. . تستثمر تقانات الومضات القصصية الشعرية عبر اشارات حيوية ذكية متنامية كثيفة التعبير , متعددة التأويل لا تبتعد عن قصدية السرد دونما افتعال شعوري او شعري مترهل!
ومن تجليات الراوية بهذا «النحو» أنها تبث القول بشعرية انثوية فتديم عنده عاطفة العذوبة المفرطة , حتى الحسية , أحيانا.
وفي جانب المعنى , تؤشر الكاتبة غايات انسانية , منها جنسية غير مبتذلة ومنها اخلاقيات ذات هدف انساني عام , ترفض عبرهما كل امتهان جسدي او معنوي , وتحتج على السلوك الاضطهادي التقليدي والجديد.
أما الجانب الفني ففيه استثمارات لدلالات تتجه نحو تأكيد قيم السرد المتعالي والميتاسرد الروائي, وتستثمر تلك بتوصيف لغوي شاعري , تصل في بعض تجلياتها الفنية الى خرق النظم السائدة لأجل ابراز النوع الجديد من السرديات المُهَجّنَة بناءً واستعارة. وفي الرواية تأكيد على أن «الساردة العليمة ـ بطلة الرواية ـ هي الأكثر رغبة في تأكيدها لغرامها الغريب ـ البديل ـ عن العشق البشري , فهي تشكو من « الفراغ العاطفي والكبت بسبب زوجها الرجل الذي يكبرها سنا , انه رمز لعدم الاشباع , وهي تكرهه , لتؤشر عدم التجانس واللا وفاق العائلي.»
كما أن هروبية الساردة العليمة من العلاقة الزواجية يدل على عشقها الوفاء الذي تكنه لصاحبه.
ثراء التقانات الروائية
أ ـ تؤكد الرواية على التحرر من قيود التقليد باعتمادها تقنيات تجريبية تخص الميتاسرد والأساليب الجديدة لرواية اللارواية. ب ـ الانحياز الى جماليات السرد المعاصرة التي تخلط بين الفنون والاساليب والمعارف , القديمة والجديدة. بطلاتها انثوية حريرية اللغة , محققة بذلك المتعة الحسية والمنفعة الثقافية بعكس اشتغالات الاكاديميين الخاملين قصيري النظر.
ج ـ ملاحظات : مثل جميع المشتغلين في حقول النشاط الانساني , تتكون مع استمرار او بدء اعمالهم بعض اشكالات لصالحهم او عكس ذلك. . وفي الرواية تنوجد مثل هذه الحالات , منها: «الرواية لا تقيم حدودا بين مخلوقات الواقع ومخلوقات الذهن , الحيوانات والناس لهم الرتبة ذاتها من الاهمية لدى صناعة الشخوص من قبل الروائية , اختلاط الروي بين السارد العليم والسارد المضمر ما بين مسار الرواية والملف, في أوراق مبعثرة متداخلة مع سير الرواية وخطها السردي».
طاقات التأويل
وفق يورغن هابرماس، أجد أهمية خاصة لطاقة التأويل في الرواية , فقابلية الروائية جيدة وللغتها ايقاعات تداولية مؤثرة , عوضنا عن كونها رمزية وجناسية استعارية.. كما أن بلاغة الروي تتحمل استيعاب العلامات ذوات المحمولات المركبة التي تجدد الوعي الجمالي والثقافي مثلما يتصير ذلك في استرجاعات الساردة العليمة والساردة المضمرة واوراق الملف.
بلاغة السرد
ان الروائية د. رغد السهيل تقيم جسرا فكريا فنيا بين عناصر السرد وآليات الرواية المعاصرة إذ تخلطها بعناصر التقعيد النحوي لإدامة بث الوعي البلاغي لدلالات التساوق والتنظيم التوافقي بينهما.. ثم تُتِم الاداء الاستعاري بجماليات التخيل التجريبي عبر تقنيات التشظي والتفكيك , ومن ثم تبين عبر بلاغة عناصر الروي , قيمة الهجننة النصية والثقافية. ولسوف يكون محور كل ذلك مقاربة بين الظرف الانساني للبلد , والعراقي بين ما قبل 2003 وما بعد 2003 , إذ التغير اوضح التخالف والتفكك الاسري والمجتمعي واشاع الاحتراب الطائفي وفوز القبائل بالتحكم بالدين والدولة.
خلاصة تجربية للتنويعات الفنية
من تلك الخلاصة تعمل على جعل:
أ ـ توازن الرواية بين جماليات السرد العام واشتراطات الروي الروائي بموضوعية إسناد القول للسرد المتعالي.
ب ـ تعبر عن فلسفة الاخلاق النافعة والعملية المقبولة بمناهضة السلطة الذكورية بتجاوز العنصرية والطائفية والجناسة وغير ذلك.
ج ـ تقوم الرواية بمعالجة القضايا الكونية بمتجهات لسانية متقدمة , سبق ان دعوناها بالسرديات المهجنة. وقد يكون الاصلح ان نسميها السرد الفسيفسائي.
ومن المتجهات اللسانية إلى الرواية استعمال الحوار وطرائق السرد المتنوعة بما يساوي الكفاءة = كتابة رواية جديدة داخل الرواية الاصلية.
د ـ تبني القدرية , فبالرغم من اتصال ابطال الرواية بمؤثرات غامضة , قدرية خارجية, ماضية ومستقبلية , فيجبرون على الانتظار والايمان السلبي بمصائرهم. .. كأن حكاياتهم هي روايات عجائبية موجهة الى الفتيان.
هـ ـ تؤكد الرواية على امكانية التناسل بين انواع السرد واجناس الروي كما تتناسل انواع الكائنات , كإمكانية رمزية تأويلية دائمة الحكمة ما دامت الطبيعة ومبدؤها متحكمين بالمصائر كلها.
و ـ من غرائب الساردة د. أمل ـ كشخصية في الرواية ـ انها لم تبحث عن الحب البديل , الجديد بعد التجربة السابقة الفاشلة مع الحبيب الاول , مما أثر عليها ليحيلها الى شخصية هروبية.
ز ـ يتحكم المبدأ الطبيعي للفن بالذائقة الجمالية البدائية للبيئة والموجودات , كأن بعض اهتمامات الرواية دعوة إلى العودة الى حب الطبيعة , إذ الموجودات البيئية الأثيرة هي «الحمار ـ البطل ـ , الطيور , الدجاج» بحجة تحقيق العدالة «الاجتماعية» في العلاقات البيئية بين الكائنات العاقلة وغير العاقلة. فمثلا تهرب البطلة من واقعها المأساوي نحو واقع خيالي أشد عناء من معاناتها الواقعية , ومثل تلك , رحلة النساء الى اقاليم الاكوان.
الأخرى لإقامة علائق ود بين أقاليم الكون , أو علائق التماهي السلوكي الانثوي والذكوري مع الحيوانات. . لربما هي محاولة للسخرية المريرة من الواقع.
ط ـ ابعاد خروقية , توجه الرواية وعينا الثقافي نحو اكتشافات مثيرة , وخروق وموضوعات جديدة , مثلما هي الدلالات التي تختفي وراء «خرافة الغول , وسلوك الكائنات الغريبة الاخرى».
حاشية
ان الوعي السردي لرغد السهيل وتشكيله بيئة سردية بلغة معبرة عن التوصيل والتواصل الممتعين , يعني التنوع التقني بما يميز سردها بمغايرة حداثوية معاصرة مبررة لاستثمار الميتا سرد اذ تتمم الروي بإطار فني جدي مفاجئ صادم يحمل اشتغالاته الخاصة بدءا بالعنوان أحببت حمارا ويندرج بعده نموذجان للإكمال هما : ــ
أ ـ التنميط الاسطوري
وهو نمط يحرر الرواية من سطوة التقليد والنمطية وافقية السرد كما هي الأسطرة الخاصة بحكاية الغول وسفر النساء الى اقاليم الاكوان الاخرى , وحادثة الاذن المقطوعة. .
ذلك كله جزء من التلاعب بالسرد لكسر النمطية واضافة نوع من الفنطازيا الى عالمنا المؤسف الملموس.
ب ـ التنميط الكوني
ان اتحاد عناصر «البشر+ الطبيعة + الحيوانات = فرح الموجودات بكائناتها الهلامية» يؤلف ما يشبه جغرافيا كائنات جديدة من موجودات مادية وغير مادية وكأن الرواية تخلق عوالمها الافتراضية المتخيلة لتبدلها بعوالم الواقع السلبي , وتنشئ كونا آخر محاذيا متصورا بديلا لكوننا المتعب. .»هناك من قال وأظنه بارت : ان الروائي صانع وخالق جديد , وإله عادل».. هكذا تخلق السهيل العالم الاخر تحيله رمزا بديلا مضافا الى الرموز الفنطازية العديدة لبلدها.
ج ـ جدل
على الرغم من لا جدوى أي بحث عدمي سفسطي , الا أن الساردة العاشقة تجعله مألوفا , وخارج المعنى , كأنه تجليا لمقولة شعرية. . ايمكن عدّها ـ لهذا السبب ـ رواية تجريبية مغامرة , إذ «بها» تسمو الروائية على الجدل المطول حول «التعالي الفني للروي , ما بعد الخرافة , منطق الجدلية التأريخية. . الخ..»
مقاطع من مشاهد
* بدأت الرواية بجملة: احببت حمارا. .. هذا ما قلته لـ. .. وتنتهي برسالة الخاتون. .. «لا تستغربي شيئا».
* يخطف ويقتل , ثم يذبح بتقنيات علمية عالية المهارة بهدف استخلاص العطر الخفي من الجميلات.
* يسلخ جلودهن , ويصفيّه. . يريد عطر المدن في الاناث نقيا من الشوائب.
* تلك المقاطع هي خلاصة ثيمة الرواية التي تتركب بأثر الزعم بوجود رجل همه , كل همه مص رهيف النساء وامتصاص عطرهن , وامتصاص انوثتهن.
ثالث عشر : مقاطع ورؤية
* «بينما تطالب الساردة العليمة او البطلة د. أمل الطبيب بـ «تحديد المنطق» في حين تعوي السيدة ضفدعة زميلة الطبيب , «أنت مجنونة».
عندما تصف الدكتورة أمل ليلة حبها الاول تأخذك طريقة الوصف الرومانسية الى عوالم مجنونة وهو ما جعل الساردة تبحث عن حبها المستحيل بديلا عن انتكاسة حبها ذاك.
تدعوني تلك المقاطع والمتابعة العامة للرواية , الى القول :
ان حب د. امل للحمار «الحيوان» كناية تعويضية عن حبها المفقود وسخريتها بفحولة الرجال كحصيلة مقاربة لتخصيب دودة الارض الخنثى.
ما الذي يدفع د. امل
للبحث عن البديل؟
يمكنني توضيح الآتي: لو تتبعنا المدون صفحات الرواية سنجد ميتاسرد الروي ينقلب الروي الى ذات المرأة الراوية فقد «أجادت الاغراء بالصوت والوجه والحركة , تعلمت كل الفنون المطلوبة منها. ..»... سقطت هيلة في أقدم مهنة تمارسها النساء: البغاء. وبمنطق كهذا ترسم المؤلفة مصائر بطلاتها , الجاهلة تسقط في براثن البغاء ويسحقها «الغول» والعالمة د. أمل تهرب الى جنونها غير الواقعي انتقاصا من فحولة واهمية الرجال.
بيد أن العلة المنطقية في الاشياء تبدو راسخة في سرديات د. رغد السهيل بفيض فني للميتاسرد إذ ان الميتاسرد يقيم سردا آخر يوازي او يعاكس السرد الرئيس , فلا يقينية للعالم في السرد الموازي وبالعكس. أن كشف العلة ووضع الحل بيد الآخرين مباشرة , تلك هي من تقاليد الكتابة الروائية التقليدية , اما الآن فالروائي خالق جديد للعالم ينشئ عوالمه الجديدة من اللا منطق بدلا من عالم يحتضر , مقيد بأبعاده الملموسة , عالم مصاغ بلمسات حواسيب وضربات الكترونية , سواء كان ورقيا ام ضوئيا دون أن يسخر من الآخر. . وعلى المتلقي ان يستقرئ التجريب وما فيه من الاعيب وتجارب ابداعية جديدة. . شرط الا يسخر الكاتب من القارئ!