ادب وفن

المرأة الفراتية.. سفر خالد في تاريخ النضال الوطني ( 2 – 2 ) / سعدي رحيم السماوي*

ان صمود وتضحيات المرأة الفراتية هو جوهر الابداع والخزين الثوري المتألق والذي يشع في النفوس بهاءً ويزداد رفعة وشموخاً فلا نقول اطلاقاً ان المرأة الفراتية بعيدة عن الحس الثوري والهاجس السياسي فهذه الشاعرة (زهره آل محيسن) من مناطق مدينة الرميثة الباسلة حينما سمعت ان الانكليز قد نفذوا حكم الاعدام بالسياسي المعروف (عبدالمجيد كنه) أحد أقطاب الحركة الوطنية والذي كان وراء تهريب بعض ابطال الحركة الوطنية في بغداد الى منطقة الفرات امثال (السيد مجمد الصدر/ وجعفر ابو التمن وعلي البزركان) وتخليصهم من قبضة الانكليز والعثور على منشورات سرية بحوزته تدعو الى الثورة.. وتمت محاكمته وذلك بتشكيل محكمة صورية حكمت عليه بالاعدام وفي اليوم التالي شيع جثمانه في تظاهرة عارمة جابت شوارع العاصمة بغداد.. وبلغ الغضب الجماهيري ذروته لتشمل العراق من اقصاه الى اقصاه حينها وقفت الشاعرة (زهرة آل محيسن) مؤبنة استشهاده:
يا طارش أتعنه
كلها الرميثة اجذبت ونه
من اسمعت باعدام ابن كنه
شهيد وسجل التاريخ عنه
وتبقى الشاعرة الفراتية تعبر بإصالة وصدق مفتخرة بقيادة ثورة العشرين الابطال الميامين الى جانب تفاخرها بالأشاوس من الثوار الأماجد في سوح المعارك الضارية على السواء وعلى امتداد جبهات القتال.. فخذ مثلاً الشاعرة (نيازي آل حاجم) من عشيرة الظوالم الباسلة بعد اقتحام (شعلان ابو الجون) جسر السوير والصمود البطولي وعاد من المعركة ظافراً استقبله الثوار ومن ضمنهم الشاعرة (نيازي آل حاجم) مفتخرة:
شعلان أجاها وصحت شوباش
خله الرميثه مجضعه الشاش
العج غطاها والثرى فراش
ولا خاف من مدفع ورشاش
والي يخلد امته عاش
والشاعرة الفلاوية وقفت هي الاخرى متفاخرة ببسالة الشيخ (عبدالواحد آل سكر) شيخ عشائر آل فتلة بعد أن وقف وقفته المعهودة في معارك الرارنجية والكفل والمشخاب والكوفة الضارية والذي خاطب الانكليز قائلاً:
(سبع أدول هزها وهزيته)
فحينها أطلق المهوال الفراتي أهزوجته الخالدة (زم بحر أوحيد شيروفه)
اجابته الشاعرة الذي طلب الشيخ منها ان تسمعه شعراً قبل وفاته قائلة بعد أن عاد ظافراً:
هم أنته وأگول أعليك مثل الناس
يحلال المخلبص من يضيع الراس
ان ثورة العشرين ظلت مناراً نهتدي بها لانها ثورة وطنية تحررية صادقة فكانت بحق الشرارة الاولى ليبدأ شعبنا من خلالها التطلع نحو التحرر والاستقلال من خلال نهوضه الثوري العارم على مستغليه ففي الفرات الجنوبي الغاضب الذي لا يقل شأناً عن وسطه او شماله فهي هي العزائم الثورية والدماء التي تغلي في عروق أولئك الرجال الذين صنعوا التاريخ وفتحوا بوابة المستقبل للاجيال القادمة نحو التحرر والانعتاق فلا يمكن قياس عزيمة وثبات الرجال بسلاحها فالثوار رغم اسلحتهم البدائية البسيطة (الفالة والخنجر والمگوار) مقابل الاسلحة الحديثة للعدو البريطاني المدجج بمعداته وطائراته ومدفعيته فان عزيمة المقاومة بايمانها وليس بسلاحها اضف الى العامل الاهم الذي يخلق العزائم ويثير الهمم هو ما تطلقه المرأة الفراتية من الاهازيج الثورية الهادفة والمؤثرة بعيداً عن العشائرية والطائفية والاثنية الضيقة أهازيج تصب في مصلحة الوطن والدفاع عن الارض وكرامة الانسان ليندفع من خلالها الثوار وهم يهزجون لأن الأهازيج والصيحات العمارية التي سمعوها من حناجر النساء أحيت فيهم روح الاستبسال والتحدي.
فالمعركة أي معركة تفرغ من محتواها الثوري اذا لم تكن هناك صيحة واحدة تطلقها المرأة الفراتية الاصيلة لتلهب عزائم الرجال وتعزز صمودهم وتضحياتهم.
خذ مثلاً ((أم خشن) هذه المرأة الفراتية الاصيلة التي خرجت من اعماق القصب ومن بين سنابل القمح والشعير والواح الشلب.. هذه المرأة التي جاءت لترى الثوار يقفون على حافة نهر متجمد يخافون اقتحامه للوصول الى قصر الاقطاعي (جثير المطلگ السلمان) الذي اعتمد عليه الانكليز مع غيره من الاقطاعيين والملاكين الزراعيين كسند لهم في الريف العراقي لقمع كل الحركات الثورية والانتفاضات الجماهيرية حيث تعتبرهم الحصيلة الاساسية للتعاون والقمع والابادة فلهذا بدأت العناصر الثورية التمرد في وجه تلك القوى الاستغلالية.. وكان انبثاق ثورة العشرين هي كسر حاجز الخوف في النفوس وخلق الغليان الثوري لديهم للنزوع الى التحرر والاستقلال وانتزاع حقوقهم من براثن مستغليهم.. جاءت (ام خشن) لتقف امام تلك الجموع المتوثبة للانتفاضة والتمرد الثوري قائلة:
تهابون من الجحيل (أي الماء المتجمد) شلون تواجهون الرصاص
فخلعت خمارها أي (شيلتها) ورمتها على الثوار قائلة:
(خسأ) هاي شيلتي عليكم دلاله على الاحتقار
وانتصبت تهزج:
( يا گاع أخذيني وطميني.. وخلي ترابچ كحل العيني)
ثم اقتحمت ماء النهر المتجمد والتحق بعدها الثوار في موقف بطولي رائع وبعد قتال مرير خاضه الثوار.. استشهد العديد منهم وأول المستشهدين برصاص الشرطة السرية الذين كمنوا لهم في الاحراش بتوجيه من الاقطاعي (چثير المطلگ السلمان) كانت الشهيدة (أم خشن، حيث امتزجت دماؤها بقطرات الندى المتلألئ فوق اوراق القصب والبردي.
ان القصيدة الثورية تنطلق بعفوية بين صفوف الجماهير.. وتعبر بصدق عن قدرة الانسان على الصمود والتحدي.. فان أهزوجة واحدة تحفز الانسان الى التضحية والاقدام تعادل عشرات المحاضرات والندوات المقامة والمقالات المنمقة وهذا ما يذكرنا باحد ابطال المقاومة الفلسطينية.
* (عوض) ذلك البطل الأسطوري الذي حكم عليه بالاعدام شنقاً في احد سجون عكا الرهيبة وقبيل اعدامه كتب قصيدة على جدران السجن بالفحم الاسود واكتشفها بعض السجناء وحفظها فاستطاعت ان تخترق اسوار السجن لتنتشر انتشار النار في الهشيم وان تكون سلاحاً ماضياً ضد الظلم.
وهذه القصيدة لا تكون بعيدة عن ملحمة الثائر العراقي الشجاع.
* (حيال الگاصد) من مدينة سوق الشيوخ البطلة المطلة على ضفاف نهر الفرات الخالد والذي اصبح مثلاً يذكر للبطولة والفداء وانتشر خبر استشهاده في صفوف الثوار كقصة المناضل الثوري (عوض) التي انبعثت من خلف أسوار السجن لتصل الى اسماع المقاتلين وتأجج روح الاستبسال والحماس.
هذا الثائر الشجاع (حيال الگاصد) الذي عصبته أمه بمعصبها وهي تقول له (عفيه ابني هذا يومك) مفخرة من مفاخر التاريخ الثوري ونهجاً عفوياً صادقاً للمرأة الفراتية المقاتلة التي دفعت ابنها في حركة سوق الشيوخ حيث اقتحم موقع رشاش بريطاني كان يعيق تقدم الثوار للوصول الى الحامية البريطانية داخل المدينة فقد اندفع كالسهم لمهاجمتهم ببندقيته وأسكت الرشاش وكان لحظة وصوله موقع الرشاش مخترماً بالرصاص ومات فوقهم فاندفعت جموع الثوار باتجاه الحامية البريطانية وهم يهزجون:
(يزويد حيال أمه تريده)
وزويد هي عشيرة الفدائي حيال من عشائر البدور.
تتقدمهم (أم حيال) حاسرة الرأس مخاطبين العشيرة التي ينتمي اليها الشهيد والتي اندفعت هي الاخرى مع باقي العشائر للانقضاض على القوات البريطانية الغازية لابادتها واسقاط الحامية البريطانية واحراقها ونهب موجوداتها.
فمن الملاحظ نجد أن هذه الاهازيج ظلت طافحة بالأمل والحب للارض العراقية الخالدة وتعبيراً صادقاً لنزوع الانسان للخلاص من الظلم والتسلط الاستعماري البغيض.. ولسهولة تداول (الهوسة)- الاهزوجة وبساطة تعبيرها ساعدت على انتشارها في أوساط الجماهير فهي خطابية مباشرة وعفوية صادقة بدون إسفاف او ابتذال فان أهزوجة واحدة تطلقها احدى المقاتلات الشاعرات في الفرات الاوسط تكفي لاثارة المشاعر وتأجيج روح الحمية الثورية في صفوف الجماهير المناضلة.. وتكون الأهزوجة احياناً سريعة هادفة حينما تتداخل اصوات الشاعرات العماريات بلعلعة الرصاص وأزيز الطائرات وهدير أصوات المدافع والحرائق المشتعلة في بيوت القصب للفلاحين الفقراء بفعل قصف الطائرات الحربية البريطانية والمدفعية بلا هوادة.
كل جابت خابت بس آنه
عفيه ابني الچاتل چتاله
لميته وشال وصار آفه
فان ثورة العشرين التي اندلعت شرارتها في مدينة الرميثة الباسلة وامتد أوارها ليشمل العراق من اقصاه الى أقصاه.. سطرت الملاحم والمفاخر النضالية والمعارك البطولية وكانت آخرها معركة السوير الخالدة التي راح ضحيتها العشرات من ابناء شعبنا العراقي الباسل والمتمثلة بعشائر بني حچيم الأبارة وهم يقارعون القوات البريطانية الغازية في معارك ملحمية خالدة وكانت للشاعرة (صافية العيد) من عشيرة الاعاجيب الوقفة المشرفة للمرأة الثكلى بولدها الذي استشهد فوق جسر السوير.. حيث وقفت عليه وهو مضرج بدمائه مفتخرة باستشهاده قائلة:
ابني المضغته البارود
فاطمته أعله سرگيه
غم راي التجيبه اهدان
وتگمطه اعله رجليهه
- - -
ابني المضغته البارود
ابني البيه كل الزود
ابني الي يجيد الجود
ابني الوگف بالحومه
وهو لزام تاليهه
- - -
ابني الي يوج النار
ابني الما يحمل العار
ابني يموت دون الدار
ابني الما يهاب الموت
والعتبه يصل ليهه
- - -
ابني الزلم ما تصله
ابني الرايده يحصله
ابني مجفنه امفصله
والزحمه يجيها أكبال
نار الحرب ملهيهه
أي امرأة تلك ترثي ولدها بهذه الكلمات الثورية.. وبهذا التعبير الاصيل الذي ينم عن حب الوطن والتعلق بالارض والدفاع عن استقلاله ورفعته وشموخه.
ان الدماء التي سقطت على جسر السوير لولدها الشهيد وخضبت الارض العراقية المقدسة هي العنوان الحقيقي والبطولي للاستشهاد والفداء.. فالانتفاضات الثورية والمعارك البطولية الخالدة التي سطرها ابناء الرافدين الاماجد هي التصعيد النموذجي للغضب والغليان الجماهيري فمع أنها لم تنتصر انتصاراً حاسماً رغم الملاحم والمعارك البطولية خلال ستة اشهر متواصلة الا أنها حققت وحدة الصف الوطني بوجه الاستغلال والتسلط والقهر الاجتماعي.. وأثبتت بحق التلاحم الثوري بعيداً عن الطائفية والاثنية كلها مجتمعة تجعل النصر حتمياً وحقيقياً بعيداً عن التزلف والمهادنة والخنوع للاجنبي المحتل وان المرأة الفراتية هي الراية الخفاقة والنموذج الاسمى للفداء والصمود والتحدي.. فمن خلال صوتها الهادر وصيحاتها العمارية أكدت حضورها الدائم.
فلهذا نلخص القول: اننا لا يمكننا الاستغناء عن حضور المرأة في كل معركة من معارك ثورة العشرين فهي جزء لا يتجزأ من الثورة وهي المحور الأساس والعنوان المتدفق بالتجدد والعطاء والنبراس المتوقد في قلب المعارك وعلى امتداد خطوط القتال والمواجهة مع العدو البريطاني الغاصب فهي اذاً سارية علم الثورة ومكنون انفعالها وعطائها وديمومة نشاطها وسموها ورفعتها وازدهارها.. وكأني على لسانها وهي تهزج قائلة:
ممنونة لهذا الشعب ممنونة
يا بحر الهنديل ما يسدونه
مصادر البحث:
1- شاعرات من ثورة العشرين، الشيخ علي الخاقاني، منشورات مكتبة البيان.
2- صفحات من تاريخ الرميثة، زهير هادي الرميثي، ص82.
3- الأهازيج الشعبية في الرميثة، زهير هادي الرميثي، ص13.
4- مجلة التراث الشعبي، العدد الفصلي 1987، حسين حسن التميمي.
5- اعداد من جريدة طريق الشعب الغراء.
ـــــــــــــــــــــــــــ
* باحث اجتماعي