ادب وفن

الشاعر عبد الكريم كاصد في "قفا نبك" / مقداد مسعود

ثريا المجموعة تشتغل على الثابت الشعري/ التاريخي،وتتغذى على معلقة امرئ القيس، وهنا يخادعنا العنوان من خلال إتصاليته مع الشعري التاريخي.
العنونة هنا حسب شيخنا الاستاذ محمود عبد الوهاب من العنوانات الإشتقاقية، فمسك ختام المجموعة قصيدة بالاسم ذاته:"قفا نبك"،والعنوان المرجع له.
سنرى من خلال فعل قراءتنا للنصوص، أن شهادة الشاعر غير مجروحة في قوله "كان العنوان أبرز مافيها وقد أضاءته النصوص الأخرى مثلما هو أضاءها ماضيا وحاضراً فلم يعد ذلك الماضي الذي يتجسد طللا، بل أمتد ليشمل تاريخا وصحراء لاتمتد في الواقع وحده ، وإنما في أعماقنا أيضا نحن الضاربين في التيه منذ ثلاثين عاما ولم نصل بعد وقد أضعنا مكاننا الأول".الأكثر أهمية هنا هو إتصالية التقاطع الرؤيوي بين الشعري والنقدي، فالشاعر أمرؤ القيس حسب شهادة كاصد يتجاوز المحدود وصولا للكوني "بتجلياته العديدة ابتداء ً بالحبيبة وانتهاء ً بطقوس الطبيعة من مطر ووحش".
*
سنرى أن المجموعة الشعرية تشتغل مرتين على المختلف، فالشاعر كاصدوقد جعل من العنونة مسك ختام مجموعته سنراه يشتغل على المختلف الشعريوهو يعلن ذلك مرتين،بالهدب النصي المعلق سراجا وهاجا قبل الدخول للفضاء الشعري.
وظيفة هذا الهدب النصي هو: مخفف الصدمة وهو اصطلاح عسكري على الوسادة الموجودة في هاون 82.."أيها القارئ ستدخل نصا مغايرا..أعني تحديدا نصا بترجمة حداثية للنص الأم وعليك أيها القارئ ان تكمل القراءة بعيدا عن الدوكماتزم.. فأنا لست مخربا للنص الأم بقدر ما أريد إشتغاله وفق رؤياي كشاعر حداثي".
*
ثريا المجموعة ماكرة فقصائد كاصد لم تقف ومابكت بل إنتقلت شعريا من الثابت التاريخي إلى المتحول الشعري، فالمجموعة فلترت التاريخ العربي وأهدتنا سبيكة من الأحجار الكريمة..قاعدة السبيكة: لحظة تاريخية عربية، لكن هذه اللحظة لم تنصص تنصيصا تاريخيا، أعني انها أخذت الوثائقي و"شطفته" بمياه الشعر الدافقة، والشاعر برتبة قناص يلتقط لحظة إشكالية ويشعرنها...
القصيدة تتكون من لقطتين: لقطة قريبة جدا أشبه بوجيز ماجرى أثناء المعركة
"وجوه الجمال ملطّخة بالدم
والهودج الذي أثقتله السهام
يميل إلى الأرض"
واللقطة الثانية تلتقط مايتخفى في أقاصي المكان نفسه: لقطة ملتبسة بغموض شفيف وبضمير واخز..
هذه الوحدة الشعرية الصغرى لها وظيفة لايمكن إهمالها..لولاها لألتبس القصد الشعري على فعل القراءة..إذن هذه الوحدة الصغرى هي الجملة الشعرية الاعتراضية والمهاد لما سيأتي بعدها، والبعد ليس جغرافياً بل هو الانتباذ عن مركز الحدث المأساوي، وسيتضح الانتباذ على العلامات التالية:
* ظل
*ظل أسود
*يحمل فارسه
*يبكي فارسه
*ويردد:
"ماهذا بخيارٍ يا ابن العوام".
اللون هنايتجاوز لونيته ليوصل شفرة الندم بقوة النظام الإحالي.
وقد يتساءل القارئ العادي: أليس السواد ماهية/ هوية : الظل؟! ستكون إجابتنا: اللون هنا يتجاوز اللونية إلى إنزياح أكبر.. كما أن الظل وزيادة بظليلة الصورة الشعرية،فأن الظل غير مسمّى، لكنه معلّم بثلاث علامات مضارعة:يحمل/ يبكي: وكل الفعلين بمؤثرية الفارس، فهو:يحمل فارسه ُ، يبكي فارسه ُ
العلامة الأولى: صامتة: يحمل.
العلامة الثانية: صائتة: يبكي.
العلامة الثالثة ناطقة بتمييزٍ يتقطر ندما ً
ثمّة ظل ّ
ظل ّ أسود
يحمل فارسه ُ
يبكي فارسه ُ
ويردّد:"ماهذا بخيار ٍ يا ابن العوّام".
*
العلامة بين المقولة كمقتبس خارج النص/ داخل النص: أولا تنسيب القول للقائل الأول وهوالزبير بن العوّام.. ثانيا: يمكن اعتبار الظل هو القرين في نهاية القصيدة، وقد يرى قارئ آخر الظل هو الفرس التي تحمل الفارس الزبير بن العوام..
هنا قام الشاعر عبد الكريم كاصد شعريا بالتفريغ النصي، فرّغه بنسبة معينة من الوثيقة وملأه بالمخيال الشعري، وجعله شرابا سائغا للقارئ وسيعاود القارئ فعل القراءة وربما يدفعه ذلك لقوس أوسع في قراءة التاريخ العربي الإسلامي.
إذا كانت لغة الحياد الشعري هي السائدة بنسب مقدرّة تقديرا عاليا ، فعلينا أن نجسّر اتصالية بين حائين"حيرة ابن العوام ومحنة ابن حنبل".
الملفت الأول للتلقي بالمقارنة مع حيرة الزبير.. إنّ التراسل الشعري هنا بين متكلّم معاصر/ صوت الشاعر وبين شخصية من السلف الصالح والتخاطب لايعلن تطابق الرؤية،بل إنصافا لحرية المعتقد،واحتجاجا على إضطهاد الفكر: بدءاً بإنشاد المنادى مع السطر الأول "ياأحمد الفقراء" والشاعر يشتغل على التفريق بين المفكر أحمد بن حبل..قراءتي التقطيعية ترى أحمدين في ابن حنبل.
1- أحمد ضمن رؤية الشاعر عبد الكريم كاصد.
2-أحمد حسب هيمنة الكثرة في الواحد.
والأحمدان متضافران في نسيج النص..فعذرا أيها أيها الشاعر الكاصد، على تقطيعي للنص بمشيئة قراءتي:
ياأحمد الفقراء
ماشايعت ُ فقهك مرّة ً
أو زرت ُ قبرك
أو مشيت ُ وراء من صلّوا عليك
وإن أردت َ الصدق
مامنيّت نفسي باصطحابك
بين أتباع حنابلة ٍ
وأتباع ٍ تنابلة ٍ
وأتباع ٍ طغوا واستكبروا بالله".
نلاحظ ان السطر الأول ضرورته كتحية إنشاد المنادى والسطور التالية تجسد اختلاف الواحد/ الشاعر مع
1- فكر ابن حنبل ...
2- مع الكثرة المدعيةالانتساب لفكر بن حنبل..
ثم يتسع قوس المشهد بإنتقاله للكوني:
"والنجم ُ لايأتي
وشمسك لا تمرّ
ورنّة الأصفاد تقطعها الحوافر
والثغور كأنّها رجز الفرات تصيح:
مت ْ جبلا
ليحيا الناس
هل أبصرتهم يأتون؟
موكبك الفقير
يسير في عرض السماء
يقوده ُ ملَك
وتحرسه ملائكة
وريحك أقبلت
يا أحمد الفقراء".
ثم تستعيد القصيدة حميمية التراسل بالمفرد بين شاعر حداثي معاصر وهو عبد الكريم كاصد، وبين الفقيه السلفي أحمد بن حبل، وتعلوه الحميمية في نبرة الحداثي وهو يخاطب السلف الصالح تجسيدا بابن حنبل
"يا أحمد الفقراء
أنت إلي ّ أقرب من يد ٍ
تقضي بسيف العقل
أنت إلي أقرب من يدي اليمنى
وأبعد من حنابلة ٍ
وأتباع ٍ تنابلة ٍ
وأصحاب طغوا واستكبروا بالعقل
أنت أحب إلي ّ يا أبت ِ"..
*
لنتمعن بالنظام الإحالي في القصيدة:
1- إحالة بإنزياح طبقي:
يا أحمدالفقراء
موكبك الفقير
يا أحمد الفقراء
2- إحالة النفي: تصنيع مسافة ايدلوجية
ما شايعت ُ فقهك مرة ً
أو زرت ُ قبرك
أو مشيت ُ وراء من صلّوا عليك
مامنيت ُ نفسي باصطحابك
بين أتباع حنابلة ٍ
وأتباع ٍ تنابلة ٍ
وأتباع ٍ طغوا واستكبروا بالله
3- إحالة ضمير المخاطب مقرونة بإحالة اليد:
أنت إليّ أقرب من يد ٍ
تقضي بسيف العقل
أنت إليّ أقرب من يدي اليمنى
أنت أحب إليّ يا أبت ِ
*
هنا تغلّفت اللحظة التاريخية الشخصية/ العامة: أحمد بن حبل ونظرية المعتزلة بخلق القرآن التي انطلقت بتوقيت الخليفة المعرفي المأمون وأورثها لعدة خلفاء من بني العباس وانبسطت أمام القارئاتصالية تاريخية جديدة بوعي حداثي أنتجها الشاعر كاصد من خلال تفريغه للنص التاريخي من المنظور الواحد ، واجتراج جهوية جديدة في تفكيك محنة بن حنبل وهكذا كان الملء الشعري لها.
*
التاريخ هو مهيمنة المجموعة الشعريةبشواهده: جنون ابن الهيثم،محاصرة الطبري، محنة ابن حنبل،حيرة ابن العواّم،مرويات أبو حيّان،حكايات الحمراء الاندلسية،شواهد المعري،ألواح أورك،وهناك الجواهري ككتاب مقروء..ماتبقى من الكتاب أعني: مفصل، في بلاد العجائب،وأحلام من ظل ابن العوام تتراجع قراءتي لظل ابن الهيثم في مسرحة الجنون.
وإذا كان ظل ابن العوام يحمل فارسه ويبكي فارسه ُ فأن ابن الهيثم
"رأى ظله مشنوقاً
يتدلّى من أعلى السقف
فارتج ّ
وقام إلى ظله مرتعدا ً
يبكي
يبكي
حتّى انطفأت عيناه".
من أين أتى هذا الظل؟! قد يبدو هذا السؤال ساذجا في حياتنا اليومية ، لكنه ليس بالساذج من خلال المساءلة القراءاتية للنص الشعري..
*
في كل هؤلاء فعل الكاصد فعلة عروة الصعاليك
"أوزع جسمي في جسوم ٍ كثيرة وأحسو قراح الماء والماء باردُ".
وكاصد هو المنبجس ُ من تلك الإشراقة
"فجأة..فإذا الأرض ُ كوكب
وأنا في الفضاء الأمير الصغير".. هو إتصالية ذرية مع سانت أوكسبري في كتابه الأجمل "حكايات للأمير الصغير".
ولكن من هو عبد الكريم كاصد؟ بشهادته والأصح بشهادة حياته فهو مسكون بيقظة الماء،إذن هو ينتسب لحيوية الجعالة الكلية "وجعلنا من الماء كل شيء حي".
"كسبّاح
يحمل أثوابه ُ في كّف
ويجذف بالأخرى
أعبر نهر حياتي".
هنا يوجد مختلف مع المؤتلف فهو لايشبه بقية السباحين، فكلهم يجذفون بأطرافهم الأربعة.ويحملون أو يحمل الماء أجسادهم شبه العارية ولايحلمون بغير الفوز المبين.. وضمن سيكولوجية الملابس: الشاعر عبد الكريم كاصد يرفض رؤيته عاريا، بعد العبور،كما نلاحظ ان النص لم يعلّم الكفين باليمنى واليسرى... قراءتي ترى أن الثياب قابلة ٌ للتأويل..وأثناء عبور الشاعر نهر حياته ، لايخلو نهر من جسر ٍ، ترى هل أبصر.."تلك الهوة تحت الجسر؟ وقد اختلفت رؤية بين الناس.
"يراه
الطفل ُ جناحا ً
والشيخ ُ طريقا ً
والنسوة ُ حبلا ً لغسيل ٍ
ينشرن عليه ملاءات الليل
فلا يبصرن الهوّة
تلمع ُ تحت الجسر - الجسر – ولائم الحداد".
كاصد وبشهادته غير المجروحة:
"أنا الذي أبديت ُ من الصبر
مايجعلني ملكا للعزلة ِ
وخادما للصداقة".