ادب وفن

بطاقات قصيرة للعام الجديد (10) / مزهر بن مدلول

ابو خشم!
بعد ايام قليلة من اصابتنا بالغازات السامة، امر الفقيد ابو عامل بعودة مفرزتنا الى (كَلي خوى كورك)، كان نظري آنذاك (نص ونص) وعيون اغلب الرفاق ملتهبة، اما الذين مازالوا عميان فتركناهم في (زيوة).......
المسافة: ثلاث ليالٍ واربعة أيام، والطريق كله سالكا ماعدا مسافة قصيرة لا تتجاوز الساعتين نمرُّ فيها بالأراضي التركية المحرمة!..........
كانت ليلتنا الاولى في (كاروكة) والثانية في (سيريا)، اما الثالثة، فكان القرار ان ننام في (زيتا) وهي قرية مهجورة ومنسية ومتروكة وسط البرد والصخور.....
عندما وصلنا الى (زيتا) عصرا، وجدنا بعض المجاميع مختلفة الاهداف سبقونا اليها، فأخذنا لنا مكانا بين اشجار البلوط واشعلنا النار ورتبنا الحراسات......
كنت جالسا على حجر عندما لمحت من بعيد رجلا يهبط السفح!، فوقفت في مكاني ورحت اتابع نزوله حتى اقترب كثيرا، كان متوسط الطول، صحيح الجسد، في وجهه عينان صغيرتان حادتان وانف طويل مدبب ومعقوف الى اليمين!، منظره لا يدل على انه من ابناء الريف، فملامحه خالية من التعب والهموم، وثيابه نظيفة وكان يتوكأ على عصا من خشب مصقول.........
راح الرجل يتنقل بين المجموعات ويتحدث معهم بصوت منخفض، كما لو انه يستفسر عن شيء ضائع، وكانت نظراته المتلصصة تزوغ باتجاهنا بين الحين والاخر من دون ان يقترب منّا وكأنّ سيماءنا في وجوهنا!،.....
اقلقتني حركاته جدا، حتى أني لم اعد اتحكم بوتائر تنفسي، (غدا سنقع في كمين.. غدا صباحا سنواجه كمينا محكما على الطريق الذي اعتدنا ان نقطعه)، هكذا فكرت في تلك الساعة، وقبل ان اخطط للتخلص منه، اخبرت آمر المفرزة الرفيق ابو دنيا بشكوكي، وسرعان ما صار القرار ان نتحرك في الظلام.....
كان علينا ان نأخذ طريقا اخرا لكي نتجنب الكمين، هذا الطريق الجديد يدخل في عمق الاراضي التركية، ويقع تحت معسكرات الجيش مباشرة، ولا يخطر حتى على بال ابليس!.....
خمس ساعات، كأني مشيت خمسين عاما!، كثافة مخيفة من العتمة، صخور تغطيها الاعشاب، عيوننا تعبت من الخردل والتركيز، اجسادنا بحاجة الى مزيد من الغذاء، عندما وصلنا الى النهر لم نعد نرى من اين نعبره وبأية طاقة نستطيع، لذلك قررنا ان ننام تحت رحمة الذي لا نراه!..........
حين ظهرت خيوط الفجر الاولى، تبيّن اننا في اخطر مكان، وتيار الماء في حزيران يجعلك تفكر الف مرة قبل ان تغامر في عبوره، لكن لا وقت للتردد، ومشكلتنا الكبرى كانت مع الرفيق ابي عامل، فما كان من أقوانا و أطولنا النصير ابو دنيا الاّ وحمله على ظهره وعبر به الى الارض العراقية!..........
حالما عبرنا، اطلقوا الرصاص.. كانت رصاصات في الهواء، خائفة وخجولة وتفضح هزيمة ابو خشم!!......