ادب وفن

الرواية العراقية: أسئلة مُباحة لكنها مُريبة / علي حسن الفواز

كثيرا ما بات الحديث عن الرواية العراقية الجديدة مثار جدل وخلاف، وفضاء للتعاطي مع إشكالات هذه الرواية في توصيفها الفني، وفي هويتها، وفي الرهان على منجزها الإبداعي. لكن خطورة هذا الحديث تكمن في فقدان التوازن النقدي إزاءها، فالبعض يسوق الاتهامات علنا، ويشكّ في قدرة الرواية على "وراثة" السلف، الذي ترك لنا الكثير من سرديات الحكي التي ظلت عالقة في لا وعينا الجمعي.
وفي المقابل هناك بعض آخر، ومنهم عبد الله إبراهيم يراهن على ما سمّاه بـ "الجيل الثالث" من الروائيين، الذين يكتبون بحساسية سردية باهرة ومغايرة، وربما هم الذين يشرعنون لوجود "ديوان السرد العربي" كما سمّاه. ما بين الحكي والديوان، أو ما بين التجريب والحساسية ثمة الكثير من التوجس، ومن الخلل في النظر إلى تاريخ الرواية العراقية بشكل خاص، ومن زوايا متعددة، تاريخية وفنية وسياسية، فالروائي علي بدر يكتب في مدونته: "رواية مجنونان لعبد الحق فاضل التي صدرت عام 1939 تستحق ان تعد أول رواية ناضجة فنيا، فهي بحق تنطوي على حبكة متقنة ومؤسسة على لعبة بوليسية بارعة، لعبة اختباء يمارسها البطلان؛ صادق شكري وهو كاتب وصحافي ومحام مشهور، وصفية سعدي وهي كاتبة متحررة، وهنالك كل شروط العمل السردي، الإبطاء والمفارقة واللغز البوليسي، واللغة الرشيقة، والسخرية. هذه العوامل وعوامل أخرى تؤهل هذه الرواية لأن تكون الرواية الفنية الأولى في العراق، ولا يمكن مقارنتها برواية "الدكتور إبراهيم" لذنون أيوب أبدا فالأخيرة أضعف بكثير". وهو رأي يختلف معه الكثيرون في التوصيف، وفي تحديد المرجعية الفنية والتاريخية للرواية، فثمة من يجد في الرواية القصيرة "جلال خالد" للروائي محمود أحمد السيد، العتبة التاريخية للرواية العراقية، ومن يجد في رواية "الدكتور إبراهيم" للروائي ذو النون أيوب المغامرة الفنية الأولى لكتابة الرواية ذات التوصيف الدرامي، لكن الأكثر من "المتابعين والنقاد" يجد ان رواية "النخلة والجيران" للروائي غائب طعمة فرمان 1966 هي الأكثر تعبيرا عن الهاجس الفني للرواية العراقية، من منطلق لغتها الوصفية والبنائية وتقانة سردها، ومن مقاربتها الواقعية للحدث وللشخصيات والزمان والمكان، وفي وضع هذه المكونات داخل سياق بنية روائية متسقة، تلامس طبائع قاع المدينة البغدادية وعوالم هامشها الاجتماعي والنفسي والسياسي، وانعكاس تأثيرات الحرب العالمية الثانية على هذه العوالم.
حديث المقاربات الفنية في الرواية العراقية ليس بعيدا عن تناص كتابتها مع المؤثرات الأخرى، لاسيما مع الروايات الغربية ذات النفس الرومانسي والغرائبي والواقعي، إذ نجد مؤثرات قصص أدغار ألن بو وغرائبيته، مثلما نجد تأثيرات واضحة لروايات الواقعية الروسية، بما فيها الواقعية السياسية، فضلا عن تأثيرات نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس ومحمد عبد الحليم عبد الله ويوسف السباعي وغيرهم.
موضوع الجدّة في الرواية العراقية كان صعبا، ليس لأن البيئة العراقية ذات مزاج شعري فقط، بل لوجود العديد من المؤثرات التي تتعلق بهيمنة واضحة لتاريخ السرديات الشفاهية، وأدب السير والحكايات والتعازيم والمراثي، بما فيها قصص الأنبياء، وقصص السيرة الشعبية، وتاريخ السيرة الحسينية، التي لعبت دورا مُعطّلا في إيجاد بيئة مناسبة للرواية الفنية، تتحرك فيها شخصيات تتكئ على المُتخيل اليومي.
وأحسب أنّ أكثر بواعث ظهور الرواية العراقية يعود إلى المؤثرات الخارجية، والانفتاح عليها، ولعل رواية "جلال خالد" ذاتها تأثرت الى حدّ ما بالحكايات الهندية، بعد زيارة محمود احمد السيد للهند، وكذلك روايات عبد الحق فاضل وذو النون أيوب وشاكر خصباك وغيرهم تحمل معها هاجس التأثر بالآداب الأجنبية، فضلا عن التأثر الواضح لغائب طعمة فرمان بروايات نجيب محفوظ وبالأدب الاشتراكي السوفييتي ذي النزعات الواقعية الأيديولوجية والثورية.
من أكثر مظاهر التحول في كتابة الرواية العراقية بروزا كان في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات، لاسيما بعد ظهور تيارات التجريب والتجديد، والتأثر بالتقانات الروائية في الآداب الفرنسية والروسية والإنكليزية والأمريكية والإيطالية، إذ وجد الروائي العراقي نفسه أمام فضاءات ملتبسة يختلط فيها الواقعي مع الغرائبي، اليومي مع الوجودي، السياسي مع الاجتماعي، الرسالي مع النفسي، فالكتابات الكابوسية لكافكا تختلط مع نزعة التمرد عند كامو، مع هواجس وأفكار الحرية والإرادة في روايات جان بول سارتر، مع التأثر الواضح للواقعية النقدية عند السرديات القصصية عند تشيخوف وموباسان وبلزاك، بوصف هذه الكتابات تعبيرا عن تحولات واقعية لها تمثلاتها الصادمة، وعلى شكل صور لقلق البطل المديني، وهاجسه إزاء الكثير من التحولات الاجتماعية والنفسية، أو على شكل أنماط كتابية حاولت أنْ تتجاوز الكتابات الواقعية البسيطة.
تحمل الرواية العراقية الجديدة هاجس البحث عن هوية، فبقدر مساحة انتشارها الواسعة وتنوع مجالات اشتغالها، إلّا أنها تظل مسكونة بشغف ذلك البحث، توقا للخصوصية، والتنافس مع التجارب الروائية العربية المُكرّسة.
صدور أكثر من ثماني مائة رواية عراقية منذ عام 2003 وإلى اليوم يرسم أفقا لواقع جديد للرواية العراقية، ولأنماط كتابتها، لكن الأسئلة الباعثة على فهم مثل هذه المفارقة ترتبط بالكشف عن: ما هي طبيعة تحقق المنجز الإبداعي في هذا الكمِّ؟ وهل استطاعت الرواية العراقية أنْ تصطنع لها وجودا وخصوصية متميزة؟ وهل للرواية العراقية الجديدة قدرة على التنافس في الفضاء الروائي العربي؟
أحسب أنّ هذه الأسئلة قد تكون عتبة لمواجهة تداعيات ما يثار حول الرواية العراقية، من جدلٍ ولغط، ومن اتهامات عمومية، وغير مهنية تطول كتّاب الرواية، والنقاد أيضا، وكأنّ هذا التدفق في الكتابة الروائية يعكس استسهالا في النشر والتوزيع.
قد تبدو مثل هذه الاتهامات غير موضوعية، لافتقارها إلى مقاربة المساحات التي استغرقتها الرواية الجديدة، لكنها أيضا تتطلب تشخيصا نقديا يقوم على فعاليات المعاينة والفحص، وتقصي مساحات الخريطة الروائية العراقية المكتوبة برويةٍ ومهنية منذ عقود، وعبر رؤية مقارنة لهوية الرواية الجديدة، ومن خلال تقانات نقدية ذات مرجعيات مفهومية واصطلاحية تلامس خصوصياتها على مستوى الجدّة والتجريب والإضافة، وعلى مستوى التعرّف على طبائع ما تحمله من كشوفات ثقافية وتاريخية. ولعل فوز رواية أحمد سعداوي "فرانكشتاين في بغداد" بجائزة البوكر عام 2014 وصعود أربع روايات عراقية ضمن القائمة الطويلة للجائزة ذاتها في نسخة 2017، وحضور رواية سعد محمد رحيم "موت بائع الكتب" ضمن القائمة القصيرة يضع السؤال النقدي أمام مسؤوليته، وأمام ضرورة البحث عما تحمله هذه الروايات من جَدّة وخصوصية، فضلا عن عديد الروايات التي صدرت عن دور النشر العربية والعالمية التي تفتح أمامنا خريطة جديدة للرواية ولآفاق كتابتها، والتي تضعنا أمام السؤال المفتوح عن خصوصية هذه الرواية مع تنوعها، وعن هويتها، وهي تلامس عالما مسكونا بالصراع والتنوع والرعب والتاريخ الملتاث بحروبه الإثنية والطائفية وسردياته ومسكوتاته.