ادب وفن

مُعطى النقد في نزوع السرد النسوي المعاصر .. قراءة في كتاب «صناعة القارئ» / خضر حسن خلف

"صناعة ُ القارئ" مفهوم ٌنقدي ليس جديداً في خطابنا العربي المعاصر، فهوَ نتاج نحتٍ في المفاهيم التي أُشبعتْ دراسة ًوبحثاً كـ "الراوي العالم والمؤلف الضمني" وغيرها من المصطلحات وكلُّها تناولتها الفلسفة الغربية وجسّدتها في قضايا المعرفة والإبداع واستفادَ منها النقد العربي المعاصر، ويصدقُ هذا على مناهج الأمم جميعها. والإشكاليات التي تثيُرها تلك المصطلحات، مع الأجوبة التي تقدّمها تنطبقُ على الخطاب المعرفي في المجتمعات كلّها. وعليهِ أنّ المدلولَ غيرُ متحيّز ٍإلى الأنماط المعرفية ِالتي أَوجدتْهُ، على اعتبار أنّهُ ينسجم ُ مع كلّ المعطيات الثقافية والحضارية وينطلقُ منْ مسلّمةٍ مفادُها أنّ الأداة الإجرائية تنفصلُ عن أُطرها المعرفية والتي تُشكلُ جانبَها المرئي والظاهر والرؤية المؤطرة لها.
ومن ذاكَ، يركّزُ الخطاب الموجّهُ من النصّ إلى المتلقي على الكيفية التي تفعّلُ بها اللغةُ المعارفَ الإنسانية َبشقيّها المعنيينِ الثقافي و الاجتماعي في نفسيّةِ القارئ، وما تستشعرهُ مؤثراً فيه ِعبرَ إِدراك الأنماط اللسانية َالمتداولة.
إِنّ ذلكَ التواصلَ والخطاب المعني كانَ القصدُ من خلالهِ التجاذب الإنساني عبرَ الشفاهي والسردي وهو في الآخر: التوصيل، وعلى هذا النحو يتشكّل الأدبُ بكلّ صنوفه؛ الشعر، القصة، الرواية، المسرح، النقد الأدبي في وحدة ِنصًّ سرديّ مبني على الخطاب للآخر. والآخر هو المتلقي
و"المتلقي هو القارئ"، كما يرومُ التوصّلَ إلى تحليله ِ الناقد عبد الغفار العطوي في كتابهِ الجديد "صناعة القارئ في السرد النسوي العربي المعاصر، دراسة نصيّة".
لقد ركّزتْ الدراسات الأدبية والنقدية بشكل ٍواسعٍ حولَ مفهوم "القارئ" وخرجتْ بوجهات نظرٍ تؤكدُ على انّ هناك قارئين رئيسين هما؛ القارئ الداخلي "المروي عليه" الذي هو كائنٌ داخل النصّ الأدبي وهو الأهمُّ في البناءِ السردي للرواية.
وكما يذهبُ الكاتب ُويتلمسهُ في السرد النسوي العربي "تحديداً" ولكن ليسَ بالوضوح الذي نتوقعهُ. ويظلُّ هذا القارئ مثالياً؛ وهو المفتاحُ المهمّ لفكِّ كلّ الشفرات التي تتضمّنهُ العملية السردية المتشكلة بينَ المؤلف والمتلقي.
ويبقى هو الوسيط ُالمناط بهِ تشكيل البنى المطروقة من تلك الرموز التي تجعل العمل الأدبي متكاملاً.
والقارئ الثاني هو القارئ الخارجي وهذا هوَ القارئ الفعلي أو الحقيقي الموجود خارج تلك العملية الشاقة للتأليف والذي يقوم ُبفعلِ القراءة..
انصب اهتمامُ الكاتب ِعلى "القارئ المثالي" المجهّز بالمعرفة التقنية الأساسية كما يذهبُ إليهِ البنيويون. وتوصّلَ إلى انّهُ ينطبقُ بمشروعهِ العملي مع شخصية شهرزاد في قصص ألف ليلة وليلة التراثية. على اعتبار أَنّه "مجموعة القدرات والمواقف والخبرات والمعارف التي تتيحُ للقارئ أنْ يستخرجَ الحدّ الأقصى من القيمة في نصٍّ معين. وأنْ تكونَ تلك القيمة مشروعة ً، أي غير مقحمة على النص". ويذهب ُ إلى أنّ هذه ِ الشخصية التي اتحفتْنا بالعبرِ والقدرات ِ التعبيرية والحكائية واخذتنا بمأخذ ِخيالِ الشخصيات التي تتحدث عنها. وَتلكَ الشخصية سُخّرتْ وأصبحت الوسيطة في أدب وروايات المرأة العربية وبانتْ واضحة ًلنا على أنها "موجودة ٌوبقوة ٍداخل النص".
إِنّ اتخاذَه هذهِ التقنيّة كمنهج ِبحثٍ قرائي في السرد النسوي المعاصر وفي أدب الرواية تحديداً ما هوَ إلاّ معرفته بسيكولوجية المرأة العربية. وكيفَ تُفكّرُ المرأة المثقفة وكيف تستجيبُ لمعضلاتهِا في عالمٍ يسودهُ التسلط ُالذكوري، كما إنّهُ يحاولُ الربط الملائم بينَ التحليل النفسي للشخصيات المحمّلة بأفكار "المؤلفة" والبنائية الرمزية الملحقة بالخطاب اللغوي الذي يغيّبُ الكثير من الخطوط ما لم تكن المؤلفةُ ذكيّة ًوتسخّرهُ بشكل ٍحقيقي.
والمرأة ُالكاتبة ُالمعاصرة ُتتخذ ُدورَ الناقد من خلال روايتها الأحداث محمّلة ًالشخصية التي تمثلها و البائنة الحضور في عملية القصّ للمنُاخ النسوي المليء بالقهر. فالتحدثُ عن الآلام والشكوى عن عوالمهن في أَيّ محفل من محافل "الفرح والترح" هي السمّة الغالبة من سمّات خصائصهنّ. وكما يقول الكاتب :"إنّ القرّاء العاديين سيصطدمون بالمئاتِ من النسوة الناقدات لقهرهن والذي يجعلنّه ُمادة ًللسهرات على موائد النقد".
ونلمسُ تلك المفاهيم السيكولوجية بوضوح في الفعل الذي يؤدّيه القارئ المثالي وفي استلهامه مفتاح تلكَ الشفرات ليحيلها إلى مبنىً تتواصلُ فيه الخطوط ُالرئيسة النافذة في السلطتين المعرفيتين من وجهة نظر القارئ الخارجي والناقد.
ولأجل أَنْ يجعلنا الكاتب في مواجهة المحور الرئيس للبحث ويبعدُ عنّا عدم إدراك المغزى المنصوص عليه في الكتابة، وتقييمه على ضوء التحسّس من الانحياز.
وتلكَ التفاتة ُمنهُ وضربٌ من التحوّط والحذر من التصوّر الذي نصنعهُ نحن القرّاء الخارجيين . فيتساءل:ــ لماذا تتقمصُ كاتباتنا دورَ شهرزاد؟!
فبالإضافة ِإلى ما وردَ في اجابتهِ على انّ استحضار هذهِ الشخصية من التاريخ الشعبي الاجتماعي العربي الإسلامي كأنموذج ٍلمواجهة واقع ٍمؤلم ٍوتسلطي وقهري! سيسهم في إِشاعةِ المفهوم المكبوت "الحرية المكبلّة ــ من خلال منطق السرد الروائي للخلاص". وانّها ستجد في النصّ الذي تدوّنه على الورق وجهها الآخر الضمني "الذات المخفيّة" لأنها تستمتع بما تكتبهُ. وربمّا تقرأهُ بصوتٍ عال ٍفي مواجهة "الأَنا الخارجية"، لتمثّل الشفاهية المتخّيلة لفعل الحكي..
والكاتبُ يتابعُ هذهِ "الثيمة" والتي أسهبنا في التحدث عنها وبأنواعها داخل النص و خارجه في الرواياتِ لقاصات ٍمن مختلف أقطار الوطن العربي ومعاصرات ٍلنا.
وقد اهتمَّ بالنقد القرائي هذا، اللاّفت الذي نتجَ عن المقترباتِ التي تبنت التوجه الجديد في حقلي القراءة المثالية والتلقي. وهنا لابُدّ أنْ نتماهى مع ما جاءَ في نتائج مقترباته التي استخلصها من التركيز على "سوسيولوجية القارئ المثالي المعاصر". وما تبناه من تلك البؤرة النقدية اللافتة. فجاءتْ على المنوال التالي:ــ
1ــ نزعات التواصل مع المتلقي للوصول إلى معرفة مقاصد المؤلف والنص .
2ــ توزع سلطة المؤلف بينَ سلطة النصّ ولعبة الكتابة عبرَ الاتجاهات الأدبية
المختلفة التي انتهتْ بموته .
3ــ إِعلان ميلاد القارئ وتحوّل مسارَ الممارسة النقدية على نحو المواجهة بين
النصّ واستقباله .
4ــ الاهتمام بالعملية الجمالية للمتلقي وبما توفرهُ من رّدِ الاعتبار لهُ عبرَ
وضعهِ في المكانة المرموقة في الممارسة النقدية .
ومن خلال تلكَ الاستنتاجات راعى المساحة المغايرة في تاريخ الأدب المعاصر والتي تبنت ما يمكن تسميته بعصر القارئ.
لقـد قرأت كتاب "صناعة القارئ في السرد النسوي العربي المعاصر، دراسة نصية" للأستاذ الناقد عبد الغفار العطوي، ولا أحسبُ أنّني أَنهيتُهُ وسأركنهُ على رفّ مكتبتي دونَ أنْ أعيدَ قراءته. فقد تمتعتُ حقاً بما منحني إيّاه من معلوماتٍ نقدية و أعادَ لي البعض منها وكنت ُ قد نسيتُها، في عالمٍ يزخرُ بالمعرفة ويضيفُ إليكَ في كلّ لحظة ٍمن لحظات تمدّدهِ ثيمة جديدة.