ادب وفن

شعرية المعنى في النص الشعري الأنثوي / عبد علي حسن

تعد شعرية المعنى واحدة من مستويات الشعرية التي تكرس لمبنى النص الشعري. ولعل الاهتمام بهذا المستوى يعكس وعي النص بالمهمة التي ينهض بها ليحقق وسائل توصيل خطابه، على ان هذا الاهتمام لا يعني الوقوع في شرك سهولة الأداة الشعرية والإتيان بمعان شائعة ومألوفة لدى المتلقي. وهذا يعني الاجتهاد في تخليق منظومة لغوية قادرة على تمكين النص من تثبيت المعاني وفق ما سيبثه من صور متعالقة لتشكل الوحدة العضوية والموضوعية للنص. ويتبدى الهدف النهائي للنص من خلال الخطاب النصي المحمل بالمعنى، لذا فان شعرية المعنى تتحقق بترحيل وانزياح المعاني الظاهرية التي يثبتها السطح الظاهري للنص الى معان أبعد مضمرة عبر وضع المفردات في سياقات لغوية جديدة تضمن خلق صور ذات محمولات دلالية.
وفي النص الشعري النسوي لا يمكن النظر الى هذا النص بمعزل عن الصفة الأنثوية للغة، فاللغة بعدها التعبير المباشر للأفكار فأنها ستنفرد وتتميز لاستيعاب الأفكار التي تشغل الأنثى العاطفية منها والاجتماعية وما يمكن ان يشكل عائقا لتحقيق إنسانيتها خاصة في المجتمعات الأبوية التي تشهد تمييزا حادا بين الذكر والأنثى. وهنا يتضح دور السياقات اللغوية في تشكل الصور المعبرة عن أفكار المرأة للكشف عن خاصية المعنى الذي يسعى النص الى بث خطابه من خلاله، لذا فإن شعرية المعنى ستسهم في تخليقها لغة الأنثى والاسلوب الذي سينتظم الصور الشعرية وصولا الى بث المعنى الدلالي للنص.
ووفق ما تقدم فإننا سنسعى في مقاربتنا هذه للقصائد المختارة من دواوين الشواعر العراقيات الى الكشف عن شعرية المعنى التي تمكنت من التوصل الى تحقيقه النصوص المختارة.
غناء السكوت/ ثنائية التضاد
في قصيدتها "غناء السكوت" تحاول الشاعرة هدى محمد حمزة ومن خلال عتبة العنوان تكريس بنية الغناء المضمر الذي لم يتمكن من الإفصاح عن وجده. ولعل بنية التضاد التي تضمنها العنوان تشير الى ذلك، فالغناء لا يمكن أن يكون صامتا إلا في حال وجود كوابح تمنعه من ذلك. إلا ان هذه الثنائية التبادلية في تضادها تقترح تأويلا آخر يتعلق بالمفردة الثانية "السكوت" ليكون لهذا السكوت غناءً وبوحا مضمرا ربما له ما يبرره. وفي كلا التأويلين سواء كان الغناء ساكتا أو السكوت مغنيا على الرغم من إحالة المضاف "الغناء" الى "السكوت" فإن العنوان يؤكد وضع البوح المضمر لوجود كوابح داخلية أو خارجية، وسنعتمد دلالة العنوان هذا في تحليلنا للنص وصولا الى شعرية المعنى الذي أراد الخطاب النصي توصيله إلى المتلقي.
في الأسطر الأولى للنص الذي هيمنت فيه الوظيفة الافهامية/ الخطابية كون خطاب التجربة موجه الى الآخر لإفهامه بوضع أو حالة ما ، وقد تكفلت افتتاحية النص بذلك:--
"كم أهدرت من السنين
كي أصل إليك
وكم اجتزت من الأنفاق
كي أطرق الأفق".
ففي المقطع الآنف الذكر حركية للزمان والمكان على حد سواء، السنين/ الآفاق.، مقترنة بالفعلين "أهدرت" و"اجتزت" لتوصل الخطاب وفق الاستفهام الإنكاري "كم" لتبين مدى معاناة الوصول إلى الآخر، وفي الوقت الذي يؤدي فيه فعل "أهدرت" للإشارة الى ضياع السنين الذي أدى بعد ذلك الى الوصول إلى الآخر للكشف عن زمن المعاناة. ففي حين يقوم الفعل "اجتزت" بالإشارة المكانية "الأنفاق" كي تدرك آفاق الآخر، فمفردة السنين الزمانية والأنفاق بما تحمل من دلالة تؤكد حقيقة وحجم المعاناة للاتصال بالآخر. والصورتان اللتان تم تخليقهما تمكنتا وفق لغة استعارية من تحقيق شعرية المعنى الذي تمكن هذا المقطع من توصيله والجهد الذي بذل للوصول إلى الآخر، ويستمر النص في بث المعنى عبر الصور الشعرية التي تم تخليقها وإمكانيات المحمولات الدلالية لتقديم المعنى الذي أراد النص توصيل خطابه الشعري، ولعل الكشف عن حالة المخاطِب "بكسر الطاء" ازاء ما كشفته الشاعرة من معاناة الوصول الى من توجه إليه الخطاب فيشير:
أنا السجينة
في طرق الدمع.
ويشكل هذا المقطع بنية انقطاع عن السياق الخطابي بما يشكل استدراكا يقطع حالة التراسل الخطابي ليطلع الآخر على حالة موجه الخطاب، فهي تؤكد انها سجينة الحزن المتمثل بطرقات الدمع وهو ما يشير الى دلالة هذه الصورة في توصيل المعنى المشار إليه، ولكن لم الحزن والدمع ما دام الوصل قد حصل عبر معاناة رسمها المقطع الأول؟
لقد تمكنت الشاعرة هدى محمد حمزة في نصها هذا وعبر لغة شفيفة من أن تعكس رؤية المرأة عند فقد الآخر الذي يعد حارسا لها وإذ خسرته فإنها خسرت كل شيء ليبقى سكوتها يغني دون ان يسمعه أحد غيرها. لقد كان للصور الشعرية دوره الواضح في تحقيق شعرية المعنى الذي يعد واحدا من أهم الصيغ الشعرية.
خدعتني وأنت أبي/ كسر توقع النص
يقوم نص "خدعتني وأنت أبي" للشاعرة وداد الواسطي على لعبة نصية تستخلص المعنى الذي يهدف خطاب النص الشعري الى توصيله إلى المتلقي،
وقد كان قوام هذه اللعبة هو تقسيم النص الى مقطعين تهيمن فيهما الوظيفة الافهامية/ الخطابية إذ ان الخطاب موجه من الشاعرة الى أبيها. وبنية العنوان تشكل صدمة للمتلقي تجعله يتقصى ما يمكن ان يعد خداعا من الأب لابنته، وهنا لا يكتفي العنوان بفضاء دلالي مستقل دون الدخول الى حيثيات النص للوقوف على هذه الخداع.
في المقطع الأول يبث النص جملة من البنى الكاشفة عن اعتراف المخاطبة بما كان يفعله الأب لها وما يبذله من جهد لإعداد البنت فكريا ونفسيا وإنسانيا:
"مازلت هنا
تربط لي شريط حذائي
تخيط لي ثوبي المطري
تحيط بيدك خصري".
ان استخدام الأفعال المضارعة تابع لما ثبته النص في الجملة الأولى "ما زلت هنا" للإشارة الى استمرارية الفعل الأبوي والرعاية التي يمنحها لابنته، كما وتشير هذه الاستمرارية الى مدى التعالق الروحي والنفسي بين البنت وأبيها، فهي تستحضر الأب واهتمامه بها لتحيك لعبة النص في هذا المقطع الذي تكشف فيه الشاعرة عن تجاوز الاهتمام من الخارجي الى الداخلي واعني به الاهتمام بصيرورة البنت إنسانيا وفكريا ليعدها لحياة قادمة:
"مازلت هنا
تحدثني عن مدينتي
عن الوطن
عن تلك الألفة
عن عالم وردي
وأناس طيبين".
ويتبدى في النص الآنف مدى اهتمام الأب بضرورة التكوين الفكري والإنساني لابنته، واللغة في هذا المقام لم تخرج عن السياق الاشهاري والبسيط في تركيباته اللغوية التي لا تتعب المتلقي في استدعاء مرجعياته المعرفية ليؤول النص فكل شيء مكشوف وواضح وما دور اللغة في هذا السياق إلا أخبار المتلقي بما حصل ويحصل، ولعل الشاعرة مدركة لما تقوم به من حصر مهمة اللغة على قيامها بهذا الدور البسيط وهو أغناء المتلقي بأدق وأكثر معلومات عن صلة الأب بابنته، فقد تخلت اللغة عن دورها الاستعاري والمجازي في تشكيل الصور البسيطة.
لقد أسهمت لعبة ترحيل كسر توقع الافق الى النص داخليا في تقسيمه الى مقطعين الأول تكفل بطرح الافق المنتظر تأسيسه، والثاني تكفل بكسر التوقع تقويضا لكل المسلمات التي جاء بها المقطع الأول، كل ذلك قد أسهم في تخليق شعرية المعنى ليصل النص الى بث خطابه المحفوف بالإحباط والخوف ، الذي يعد معطى من معطيات انتهاك الواقع وانهيار المعايير الإنسانية التي ثبتها النص في مقطعه الأول.
* امرأة الأربعين/ المعنى المؤجل
تسعى الشاعرة فرح دوسكي في نصها "امرأة الأربعين" نحو الدخول الى عالم المرأة من زوايا عدة تشكل بالتالي مشهدا دراميا يستوعب الوضع اللا إنساني للمرأة في المجتمعات البطرياركية، فهي تستحضر الطفلة التي لا تزال في داخلها، عبر هيمنة الوظيفة الانفعالية/ الشعرية المكرسة للتجربة الخاصة الذاتية، فهي المتكلمة والناقلة لتفاصيل تجربتها الحياتية وقد بلغت الأربعين من العمر:
"إني أراقب كل يوم طفلة تلهو بهمس النوافير
نسيت لعبتها بيد الذاهب بلمح البصر.
حشرت حقيبتها بين ثياب من حرير
تفرك الدم عن خوذة جندي".
ففي هذا المقطع يهتم النص بتخليق الصورة الشعرية المتمكنة من بث خطابه عبر اللغة الاستعارية التي حرصت الشاعرة على اعتمادها في تثبيت وبث المعنى الذي يبدو هنا بفعل تلك الاستعارات والمجازات قابلا للتأجيل بغية إعطاء الفرصة للمتلقي لاستدعاء مرجعيته الفكرية والجمالية للتوصل الى المعنى الخاص به تأويليا، إذ ان الصور المكونة تضمر معان أخرى متخفية خلف المعنى اللغوي الذي تفصح عنه خارجيا باتجاه تشكل معنى آخر يتخذ قراءات متعددة تبعا لمرجعية المتلقي. وأحسب ان الشاعرة دوسكي تمتلك قدرة وبراعة في استخدام الاستعارات والمجازات لخلق عوالم النص.
وينفتح النص في جمله الشعرية اللاحقة على عالم البراءة والطفولة المكونة للمرأة الأربعينية ومنتقلا إليها راسما مشهدية جميلة للراكز في الذاكرة الجمعية:
"طفلة تخاف من ذئب ليلى
لا تميز بين الغالب والمغلوب شج صبرها
على حلمة الهديل".
فقد استثمر النص حكاية ليلى والذئب الشائعة في أدب الأطفال، إذ لا يوجد طفل لم يسمع أو يقرأ هذه القصة، وتمكن النص من ترحيل خوف ليلى من الذئب في القصة الى خوف طفلة النص للتدليل على البراءة التي تدفع الطفلة الى الخوف من ذئب القصة الورقي، كما ان هذه الطفلة لم تفهم بعد لعبة الصراع لتتبين الغالب من المغلوب في لعبة الكبار. إلا انها تملك من الصبر ما يمكنها من الحفاظ على عالم البراءة الذي ظل معيار حياة لاحقة وهي امرأة في الأربعين مازال الخوف يملأ كيانها وسببا من أسباب ارقها الذي لم يبق لها غير حطام امرأة:
"امرأة لم يتبق من ارقها غير امرأة الأربعين
وهي تبحث عن قدم أنثى
تشبهها.. لتكمل حربا
على بياض الورقة".
وإزاء هذا الإحباط وعدم تمكن ما تحمله هذه المرأة من براءة، فإنها تبحث عن امرأة أخرى تعاني ما تعانيه لتخوض حربا لا تستطيع خوضها على ارض الواقع لعدم تمكنها من حيازة القوة الداخلية والخارجية لخوض هذه الحرب على الخوف والشغف اللاشرعي للآخرين بها والاستهانة ببرائتها لتخوضها على الورقة البيضاء كتابة وذلك أضعف الإيمان.
من خلال ما تقدم من تحليل مبسط للنصوص الشعرية المختارة للشواعر آنفات الذكر نستنتج:
1- ان النصوص كانت تسعى الى توصيل معنى ما متوسلة بالصورة الشعرية تارة وبالنص كاملا بعده مدلولا لدال شكله النص.
2- اتسمت اللغة بقدرتها على تمثل تجارب النصوص إخباريا واستعاريا لتخليق الصور الشعرية الحاملة للمعاني.
3- كشفت النصوص عن خاصية لغة الأنثى عبر استخدام المفردات والصور المعبرة عن عوالم الأنثى.
4- كشفت النصوص عن تمثل للتجارب الإنسانية والوجدانية للمرأة. وما تعانيه المرأة في المجتمعات القائمة على القهر الاجتماعي والجنسي للمرأة.
5- حضور الانهيار والانتهاك الحاصل في البنية الاجتماسياسية للمجتمع العراقي وتراجع القيم الإنسانية النبيلة وتردي الواقع العراقي بما يحفل من تضادات وعلى كافة المستويات