ادب وفن

الفيسبوك وسوسيولوجيا الجنس / علي حسن الفواز

فضاء التواصل الاجتماعي بات فضاءً تفاعليا للتنوع الأنثربولوجي، وللحيوات التي تصطخب في المبنى الرمزي لمفهوم "القرية العالمية الصغيرة" التي صاغ مفهومها التواصلي مارشال ماكلوهان، تلك التي يتسع فيها التراسل، مثلما تتسع فيها قيم الاختلاف والصراع والجدل والإشهار...
الفيسبوك لم يعد مُخلصا ليافطة التواصل الاجتماعي، بل أضحى مجالا مفتوحا يمكن من خلاله تطوير وتوسيع مفهوم الرسالة، وممارسة طرق لا حدود لها في التعبير عن النزعة الفردية، شديدة الخصوصية في التدوين والتصريح والتعويض والاعتراف. هذا التوصيف أكسب "الفيسبوك" توصيفات من الصعب السيطرة على استعمالاتها، إذ تحول هذا المجال الى قوة رمزية للحرية الشخصية في مستوياتها الثقافية والسياسية والنفسية، وحتى علماء النفس أدركوا خطورة هذه الوسيلة وطبيعة تأثيراتها على الشخصية، فقد وجدوا فيه مقاربات يمكن توظيفها في مجالات الدرس السيكولوجي، وفي الكشف عن الكثير من العلل التي يعاني من أعراضها الجمهور والأفراد...
سرية هذا المجال وخصوصيته أعطته أفقاً للتعبير عن "الحتمية التكنولوجية" تلك التي تمارس حتميتها واستقلاليتها، ووظيفتها في المجاهرة، والتخلص من سطوة التابو، إذ من خلاله يمكن تجاوز أيٍّ شكلٍ للممنوع في العلاقة مع "الآخر" بكل ما يحمله هذا "الآخر" من شفرات جنسية وأنثروبولوجية ودينية وطائفية وقومية، حدّ أن عالم هذا "الفيسبوك" قد نسف ما هو طبيعي في هذه العلاقة، وأطلق العنان للغرائز والمواقف لأن تكون أكثر تعبيرا عن قوة هذا السري، وعن التلذذ بما يستدعيه من اعترافات ومن عوالم خفية وبوحٍ وأكاذيب وتلفيقات وادعاءات وغيرها من أوهام السايكوباثيا..
الجنس والتابو ظلت علاقتهما ملتبسة، فمن الصعب البوح بسرائرهما، وبكل ما يحوطهما من تفاصيل سريرية، لكنهما عبر هذه الوسيلة التكنولوجية التواصلية- المحمية الى حدٍّ ما- تعرضا إلى أخطر إزاحة سيميائية، فاللغة الافتراضية والحوار الافتراضي صار نظيرا لـ "سرير افتراضي" فيه كل ما يوحي بتصريف الممنوع والبوح به، والتلذذ بالاستدعاء واستنماءاته وايحاءاته وإفراغاته..
التلاقي الافتراضي تحوّل الى عتبة لشرعنة وجود علاقة ما، ولإكسابها بُعداً شعوريا من خلال القبول بالآخر، والقبول بتحرشاته أولا، والاندماج معه ثانيا، والتوافق معه على ممارسة كل الممنوع من خلال الاتفاق على علاقة افتراضية عبر اللغة ثالثا، أي أن اللغة تتحول من رموز للتواصل الى أعضاء تُنفّذ فعل الرغبة، والى واسطة لنقل مشاعر مكبوتة ومُحرمّة بقصد الاشباع والتفريغ والانتشاء..
الجنس الافتراضي، وعبر هذه المُبادلة تحوّل الى جزء من لعبة وعيٍ نكوصي، يستعيد اللذة ومُتخيّلها عبر استعادة رموزها اللغوية أو الفيتشية كما يقول يونغ، وهذا الوعي سيكون أكثر قبولا بالتحوّل والتقنّع عبر الانخراط في التعبير عن طقوس رغباتٍ مرضية غير واعية، وشغفٍ لا يمكن تمثّله واقعيا إلّا عبر اللغة، وعبر تمثّل حمولات أنساقها المضمرة.
العلاقات والمجتمع الافتراضي..
العلاقات داخل العالم الافتراضي ليست معنية بالحضور العياني، وهذا النمط من العلاقات يفترض له ممارسات وطقوس من الصعب البوح بها واقعيا، فهي ذات خصوصية فردانية، مثلما هي وسيلة للتواصل مع آخرين، قد يتماهون مع بعضهم البعض في الرغبات والأمزجة، حتى وإنْ كانت "منحرفة" أي أنَّ هذه العلاقات الفردية والجماعية عبر ما يسمى بـ "الكروبات" تصنعُ نوعاً من "المجتمع" الافتراضي، يتبادلون عبر الانضمام إليه المنافع والغرائز والمواقف بعيدا عن المكان والوقت، كلُّ ما يجمعهم هي اللغة، والشفرات التي تحملها، فضلا عن أنَّ الخروجَ من هذا المجتمع أو التمرد عليه أو حتى الطرد منه لا يتطلب إجراءات تعسفية، يكفي ضغطةُ زرٍ واحدةٍ لمحو شفرة "المواطنة" في هذا المجتمع، وحتى العلاقات الأيروسية التي تتشكل داخل هذا المجتمع لا تتطلب وثائق أو إشهارا أو معرفة كاملة، فاللغةُ تستحضرُ سريرا افتراضيا، والرغبات الشاذة والطقوس الشاذة تتحول الى ايحاءات تكشف عن المشاركة في الهوس النفسي الأيروسي، وعن طبيعة الشخصيات الاضطرابية، والتي لا تجد إلّا عبر هذا السرير مجالها للاعتراف، وفي ممارسة شغف الاستمتاع واللذة الكاملين في الإيهام، وفي التعبير عن طاقة استعراضية فيها الكثير من الأوهام والتخيّل والأكاذيب والرغبات المكبوتة والمُحرّمة..
المرأة والرجل بطبيعتهما كائنان استعراضيان، في الجسد واللغة والرائحة والأناقة، ولعل ما قاله مرة رولان بارت عن هذا الاستعراض ذكيا وماكرا، حين قال: أننا نتأنق صباحا ونرشّ على جلودنا العطور، وكأننا نتهيأ لشخص ما، هو ذاته في الشارع، أو عند الرصيف، أو في غرفة العمل أو في المقهى وربما هو ذاته الذي نتوقُ شغفا اليه في السرير، وأحسبُ أنَّ هذا المزاج الاستعراضي سيتحول في "الفيسبوك" الى قوة إيهامية للمزيد من المجاهرة اللغوية لإسكات صوت الحاجة الجنسوية الداخلية، ولكل الرغبات المازوجية والسادية، حيث يكون الجسد أداتها الوحيدة للتصريف والتعبير والإسقاط والتفريغ..
سيسيولوجيا الفيس بوك تعكس أزمة تشكّل مثل هذه العلاقات على مستوى تصريف الوعي، وعلى مستوى التعاطي مع قيمة الجنس ورغباته المحمومة، مثلما تعكس نوعا من التوهّم الصياني عبر الاختباء تحت أغطيته الافتراضية المُشفّرة كما تقول إعلانات الإدارة في حقل الدردشة، وبقدر أهمية هذه العلاقات كعنصر فاعل في إدامة التواصل الاجتماعي، وحتى السياسي والثقافي والمعلوماتي، لكنه تحوّل أيضا الى مجال للتعبير عن أعراض مرضية تتعلق بالكبت واللاوعي الجمعي عند العديد من الرجال والنساء، والتي يتعلق الكثير منها بأوهام الخيبة والتهميش والعزلة والبطولة والرغبات الجنسية غير السَوية، وصولا الى التصرّف الإيهامي بالشخصية وتضخيم استعراضها، لاسيما في استيهامات البوح الجنسي وإيقاع البعض في فخاخ الغفلة، أو في براثن الشتيمة السياسية والطائفية، أو في الإشاعات وغيرها من صياغة سائل الاتصال الواقعية والمزيفة..
دراسة سيسيولوجيا الفيس بوك تحتاج الى مقاربات علمية، والى إجراءات بحثية، والى استبيانات لتأشير مدى أهميتها وضرورتها وخطورتها، وطبيعة الفئات التي تنخرط فيها، وفي اتجاه أن توضع نتائج هذه الدراسة في سياقها العلمي، لتكون هذه العيّنة المطلوبة تحت عين المراقب والباحث، لاستقراء تحولاتها الرمزية والسيمائية والنفسية، ولمقاربة معطياتها، ولكل ما يتعلق بها من إشكالات تعبيرية، تخص تحديد طبيعة الشخصية/ العينّة، وتخص العلامات النفسية للحرمان والكبت والتطهير والشذوذ، والتي ستكون مظاهرها التعبيرية الصارخة أكثر انو جادا في عادات وسلوكيات يمارسها البعض عبر– اللغة، الصورة، الاشارات- في المرافق الصحية العمومية، أو في الدفاتر المدرسية أو على الأشجار في الحدائق العامة...
سرير الفرجة واصطياد الضحية..
الفرجة السريرية الإيهامية في الفيسبوك ليست نشاطا تقانيا مجردا، إنها تماهٍ مع مشاعر مضطربة ومنحازة، وأنّ خصوصيتها تجعل صاحبها أكثر نزوعا إلى التلذذ بطقوسها وإباحيتها، فهي مستترة عبر اللغة، وغائرة في رمزيات شفراتها التعبيرية الفائرة والشاذة، لكنها تحولت- أيضا- الى فخ لاصطياد الكثير من الضحايا، لاسيما أولئك الذي ينتمون الى مجالات اجتماعية وسياسية وتجارية خاصة لها حرماتها العائلية، إذ كثيرا ما تتحول عوالمهم المكبوتة، وحوافز إثاراتهم ورغباتهم المنحرفة الى دافع نفسي لممارسة سرانية هذه العلاقات عبر هذه الوسائل المحمية، ومع تصاعد الرغبة يتصاعد هوس استدعاء صورة الآخر الجنسوي في طقوس إثارته - الكلام البذيء، نزع الملابس، حركات جنسية غاية في الجنوح - بحثا عن اشباع رمزي استيهامي..
هذا الآخر- السلبي أو الإيجابي - يتجاوز توصيفه الأنثروبولوجي ليمارس عبر الشاشة وظيفة الصياد في اصطياد ضحيته المنحرفة عبر تصويرها في لحظات الرغبة والبوح الافتراضي، والعري الافتراضي، لتكون لعبة التصوير نسفاً لافتراضية العلاقة، ولرمزيتها، وبالتالي يكون إشهار أدواتها وآثارها خروجا عن التواصل الاجتماعي الى ما يشبه الجريمة الاجتماعية، جريمة الكشف عن المحظور، وتعرية أقنعة الشخصيات التي حاولت أن تستر انحرافاتها في اللغة.