ادب وفن

"سيدة الوهم".. تواشج الرؤى بين القصة والشعر /ناهض الخياط

تنفتح القصة الأولى "مقامات حمدان" في المجموعة القصصية "سيدة الوهم" للقاص عبدالحسين العامر برؤيتها الشاعرية على الأمكنة بأحداثها الحقيقية أو المفترضة مختلجة بمعاناة الغربة والحنين ، وعن عزة الإنسان في وطنه ومذلته ، أو خارج خيمته . ولم أفاجأ بالشكل الذي تجسدت به أحداثها.
هنا لم يجد الكاتب عن محنة الضياع القاتل غير لغة الشعر في بوحه الشجي العميق "ليس سهلا أن تبوح بما تعاني وتريد ، أو تتقبل ما يملى عليك ، فلكلا الحالين الثمن الفادح ، وانت ترى نفسك محاصرا تارة ، ومنفيا تارة أخرى خارج مدنك وأمكنتك التي بنيتها في داخلك".. " تتلفت كمن فقد جواز سفره في مدن بعيدة كأنك ذلك الثمل الذي طال به الانتظار على الرصيف تحت رشق المطر ............. وكم طال بك الانتظار .. ولا أحد! لتتوزع على هدي تلك الخرائط المرسومة للناس هنا وهنالك متحديا فحيح المجسات التي أجبرتك على الرحيل"!
وفي قصته الثالثة وجدت فيها ما عانيته في قصيدة لي إزاء بيوت الفقراء المعدمين:"بيوت من صفيح ، بيوت من قصب، أو من تراب ، وأهلها ... ، هنا تلطم جبينَها الكلمات"!
ويستعرض القاص العديد من هذه الغرف البائسة التي يتداعى معها أسى الكاتب لهؤلاء المعذبين: "وكم عندنا الغرف من الطين والقصب في الجنوب" و"غرفة الحارس الليلي المسقوفة بالصفيح وبعض قطع الخشب المضببة بدخان سكائره الرخيصة ودخان السراج النفطي" و"غرفة مرزوك الحمال المفروشة بقطع الكارتون السميك".
وتتواصل رؤاه الشعرية في سياقاتها "شبابيك مغلقة دائما، زجاجها مصبوغ بألوان معتمة، عدا شبك ابنة الجلبي، شباك وفيقة المفتوح على الساحة: "شباك وفيقة يا شجرة ، تتنفس في الغبش الصاحي ، الأعين عندك منتظرة"، فهنا يتجلى تناص الإحساس الشاعري مع الشاعر بدر شاكر السياب. فتحقق له هذه الرؤيا لمحة من وهج الشعر بين عينيه.
ويتواصل القاص مع ذاكرته المستفَزة بمحنة الشوق للشعر في قصته "محنة الصمت" متعاطفا مع الشاعر في مطبات مسيرته ، ويتقمص إحدى مواقفه ، فتبدأ قصته: "في ذاكرته جانب يأبى أن يغلف نفسه بالنسيان ، والذي كان مشغولا به فترة ليست بالقصيرة...". ويتابع القاص شاعره في صعوده إلى المنصة، ثم صمته الأليم في حرجه الشديد ، وهو يبحث في جيوبه عن قصيدته التي أضاعها ! فيعبر عن مشاعر الشاعر ، بل مشاعر القاص نفسه ، فلمّح عنها بما قالته إحدى الجالسات في القاعة "وهي تداري في داخلها آهة تشبه الغروب".
وفي قصته "انتظار" يتواصل القاص مع رؤى الشعر في ما سبقها من قصصه. وما هذه القصة سوى تأملات القاص في وحدته، وانتظاره لما يود تحقيقه من أحلام مبهمة ، لم يحدد القاص ملامحها ، كما هو الشعر في ملامح أسراره الغامضة! إنه فقد الطمأنينة في انتظار مالا يجيء "ومن يستطيع أن يمسك بخيط الطمأنينة يا ترى ، لينسج منه ولو مساحة صغيرة من الأمل".
وفي قصته "من دفاتر أحدهم ، من دفاتر مدينة" أجدني أردد مع نفسي قول "السياب" عن المطر: "أتعلمين أي حزن يبعث المطر، وكيف تنشج المزاريب إذا انهمر ، وكيف يشعر الوحيد فيه بالضياع". أذكر هنا قول السياب عن المطر وهو وحيد في منفاه وغربته ، لأنني وجدت أصداءها تتردد في هذه القصة ، لأن القاص هنا يتماهى مع روح الشاعر في عالمه : "أحيانا أشعر بكآبة غير مألوفة نتيجة الهدوء المباغت والوحدة التي مبعثها المطر ، مثل توحد النخيل مع نفسه في تلك الأجواء ، وأشعر أني قد فقدت كل شيء".
وفي قصته "مذاق القهوة" يروي لنا القاص لقاءه المفاجئ مع صديقه المناضل الذي غيبته السجون ، ويبدأ هكذا: "بعد فترة طويلة على غيابه ، ومن غير المتوقع .. التقينا .
كان ذلك في أحد منعطفات شارع خلفي ، سرنا معا برفقة الصمت ، وفي داخلي – وبالتأكيد هو أيضا – غصة .
من أين أبدأ معه ؟
هكذا تساءلت ، ونحن محملين بدفتر من الذكريات .
توقفنا قبالة مقهى منزوٍ، نظر لي ، فدخلنا".
القاص ، هنا ، لا يعرف من أين يبدأ ، كما الشاعر لا يعرف من أين يبدأ بقصيدته. وترك القاص بنيتها لتداعياته المنثالة عليه من الذكريات . ولأنه شغوف بالمطر كما الشعراء ، فلابد من وجوده تيمنا به ، هنا في فضاء مشاعره الغائمة يرى: "وفي وقت متأخر من الليل ، شابا يتأبط ذراع شابة خرجا توا من دار للأوبرا وهما على الرصيف المحاذي يضحكان متلاصقين تحت المظلة التي كان يحمل .. فقد كانت تمطر".
إن ما ظهر لنا من خلال "سيدة الوهم" أن القاص عبد الحسين العامر يسير في قصصه متوازيا مع خط الشعر، سيما قصيدة النثر منه، وكثيرا ما يلتقي بتماس معها هنا وهناك.
وهو ينسرح في لا وعيه سائحا محاكيا بكلماته وغنائيته طباع دواخله ، ورؤيته المتأملة لواقعه.
لقد مكنته تجربته المديدة في القصة القصيرة، واستيعابه لشروطها الصعبة، من تقديم نماذج مبدعة للقصة القصيرة، والقصيرة جدا، التي يأخذنا بها إلى عالم الشعر الفسيح.