ادب وفن

حول اعادة الاعتبار إلى الرباعيات / داود سلمان الشويلي

الرُّباعيّةُ في الشعر كما يعرفها المعجم الوسيط هي منظومة شعرية تتأَلف من وحدات، كلّ وحدة منها أربعة أشطر تستقل بقافيتها، وتسمى في الشعر الفارسي "بالدوبيت".
وهي أنواع من حيث الوزن والقافية، وقد اشتهرت في التاريخ الادبي رباعيات عمر الخيام في الادب الفارسي، ورباعيات صلاح جاهين التي كتبها بالعامية المصرية.
يأتي الشاعر عبد الرضا ليعيد الاعتبار لهذا النوع الأدبي، تاركا الوزن والقافية، معتمدا على الايقاع الداخلي للأفكار والموضوعات التي تطرحها تلك الرباعيات، فيكتب مائة وثمانية واربعين رباعية ضمتها المجموعة الشعرية المعنونة "الارجوحة الفارغة - رباعيّات شيئيّة".
ولما كان العنوان حسب دارسي الأدب والنقاد يعد عتبة نصية اولى من خلالها يلج المتلقي الى الكتاب "مجموعة النصوص" فهو في هذه المجموعة يكون مركباً من جملتين كاملتين، هما " الارجوحة الفارغة "وهي جملة كاملة يراد منها تسمية المجموعة، والجملة الكاملة الثانية" رباعيات شيئية " حيث تقوم بتعريف المتلقي بالصفة التي تميز الرباعيات التي تضمها هذه المجموعة.
ولما كان العنوان يعد واحدا من "سيمياءات " أي عمل للوصول الى دلالات النص ومعانيه، فان عنوان هذه المجموعة يحمل دلالة ما، ومعنى أيضا، يجب الوصول الى دلالاته ومعانيه دون المطلوب من المتلقين الاخرين ان يتبنوا ما ستصل اليه هذه السطور، لان في ذلك مصادرة لما يقومون به.
"الارجوحة الفارغة" اما ان تكون متأرجحة، او انها ساكنة، فاذا كانت متأرجحة فإنها تعني ان شخصا كان فيها وغادرها، ويجب ان نعرف سبب مغادرته وبقاء الارجوحة متأرجحة.
واذا كانت ساكنة علينا ان نتوصل الى الحال الذي اصبحت فيه هكذا، أهي مهجورة دائما، ام انها مهجورة لوقت قصير؟
والاجابة عن هذه الاسئلة اتركها إلى المتلقي لمعرفتها بعد قراءة الرباعيات في المجموعة.
اما العنوان الثاني "رباعيات شيئية" فانه يعطي دلالته من القراءة الاولى، أي انه يعلن عما تحتويه هذه المجموعة، وهي اشعار كتبت بأسلوب الرباعيات، و" شيئية " تعلن عن نوع هذه الرباعيات، انها رباعيات شيئية، من الشيء، كالرواية الشيئية التي اشتهر بها الكاتب " آلن روب جرييه " ورواياته التي تعد من هذه المدرسة في الرواية الجديدة، حيث تصف الواقع بشكل محايد، وتقدم مشهدا واقعيا للأحداث بوصفها اشياء في متناول البصر، وهذه الاشياء هي مستقلة عن سياقها الانساني وغير متأثرة به.
اذن هي رباعيات تطرح موضوعات كثيرة كالهايكو الياباني الذي يطرح موضوعة الطبيعة وتمظهراتها، حيث يحمل، الهايكو، فكرة معينة عما يقع تحت النظر.
تتسم هذه النصوص بسمات تقترب الى حد ما الى سمات قصيدة النثر، مثل : الايجاز والوحدة العضوية. فهي موجزة قصيرة الا انها محملة بالدلالات والمعاني، وموضوعها واحد غير متشعب وغير مسترسل.
ومن مواصفات هذه الرباعيات هي انها:
- تطرح وصفا للطبيعة ومظاهرها. يقول الشاعر في رباعية " غابة " :
* "كلّ أشجاري تصلح للشيخوخة
كلّ الأيائل عندي تركض وتصول
هاجمتني رياح قدر ما تستطيع
لكنني لن ألبي مطالب الانحناء".
– تطرح وصفا للأشياء بعيدا عن تأثيرات الانسان فيها، كرباعية "نافورة":
* "لي بهجة الماء والأطفال من حولي
وتفاحة تطفو بحوضي حاصرتها العيون
وما بان لها سوى الحنان
هي أجمل مما تكون في سلّة البقّال".
– تطرح تأثير الطبيعة وظواهرها والاشياء على الانسان، وليس العكس، فهي تؤثر فيه ولا تتأثر بما يفعله هو. مثل رباعية "خشب":
* "سفينة نوح أوجعتني بالمسامير
وهي تسعى إلى مستقرّ لها
لي شفق العطر في دولاب السيدة
ليس لي عودة للشجر".
4 - قريبة من احاسيس ومشاعر الانسان، الا انها ليست مشاعر واحاسيس الانسان بعينها. مثل رباعية " قدح " :
* "يعرفني عصير الرمّان
يمسك بي الشاربون حتى الثمالة
ليس لغيري الشوق إلى الموائد
وكم أصغيت لقلق العانسات".
***
وعندما نبحث عن الزمن فإننا نجد حضورا له، ذلك لان كل الرباعيات تصف حالة ما ترى من خلال عيني الشاعر، بأفعال عاملة في الزمن الحاضر، كما في رباعية "جذع":
* "أنام بين الزروع الحبالى
يقطعني فأس في لحظة مباغتة
ينفش خلايا جسدي وجروحي
ليهتك أسرار العرجون القديم".
وفي رباعية "باص" وباقي الرباعيات:
* "يزدحم الركّاب بي من دون متّسع
ويعلو دخان سكائر العجائز
تفوح من بين أرجلهن رائحة البِطِّيخ
وأنا أشقُّ عباب الريح".
***
الشاعر في هذه الرباعيات يصف ولا يطرح موقفه الشخصي مما يرى، انه يكتفي بنقل المشهد. كما في رباعية "قمامة":
* "لديَّ فئرانٌ تغزو البيوت المجاورة
لديَّ أطفال الفقراء يبحثون عن صفيح فارغ
وآخرون يبعثرونني في الشارع
ها أنذا يسكنني العفن".
وكذلك في رباعية "مسبحة":
* "قد أسقط من ثقب الجيب
يتلهّى بي عاشق نحيل
ويحسب أيامه ليصل إلى وهم اللقاء
وتأخذني منه حرارة يديه".
***
تمتاز الصورة الشعرية في الرباعيات بحياديتها، فهي تطرح مشهدا محايدا في كل جوانبه الموضوعية والذاتية، ذلك لانه عبارة عن صورة فوتوغرافية لما حدث امام العين، كما في رباعية " جواز " مثلاً :
* "يعبرون بي الحدود تطاردهم المطارات
صورة للمسافر باهتة تتقاذفها الظنون
لوى عنقه مخافة تهمة التزوير
ثمَّ صمَّ أصابعه وفتحها في سورة الفلق".
في هذه الصورة الشعرية نجد الشاعر كالمراقب يكتب ما يرى ولا دخل لمخيلته فيما يكتب، او يقول، او يقدم، انها صورة للمشهد الذي امام عينيه، كما في رباعية "كرسي":
* "أنا مثار أعجاب الملتصقين بي
أفسح لهم في مجال الغنائم
يحفلون بي كأنّي أزيح عنهم البؤس
ويعلقون عليَّ آمالهم المريبة".
***
ان "الارجوحة الفارغة" جاءت لتسد فراغا في نوع الشعر المستخدم وهو الرباعية، ذلك النوع الذي كاد ان ينقرض في حياتنا الادبية.