ادب وفن

تباين التجارب القصصية في "بوح النواعير" / احمد عواد الخزاعي

تميز أدب ما بعد التغيير في العراق عام 2003 بغزارة الإنتاج، شعراَ، وسرداَ "رواية وقصة قصيرة"، وبتعدد الأساليب والمدارس الأدبية، وتباين المستوى الفني والجمالي بين النصوص المطروحة، وتفرد السرد باحتوائه على نسبة كبيرة من الصدق والحقيقة، كونه يحاكي الواقع العراقي، بلا محاذير أو بوابات سوداء، اضافة الى كونه قد تحدث عن المسكوت عنه لعقود، غير ان هذه "الفوضى الأدبية" - ان صحَّت - التي تجتاح الساحة الثقافية العراقية، لا تشكل برأيي حالة سلبية، بقدر ما هي تعبير لمخاض أدبي ناتج عن الاضطراب السياسي والأمني والاجتماعي، الذي يعيشه عراق ما بعد التغيير، وهو وليد ظرف استثنائي سيترشح عنه في نهاية المطاف، صفوة من الكتاب قادرون على تمثيل السرد العراقي بالصورة التي تليق بتاريخه المشرف.. المجموعة القصصية "بوح النواعير" التي اشترك فيها ثمانية عشر كاتبا عراقيا كانت مشاركة المرأة فيها متواضعة، فقد اتسمت نصوص المشاركات الثلاثة، بالبساطة والأسلوب التقريري المباشر، والثيمات المستهلكة، نزعت في معظمها الى الطابع التربوي، وافتقادها الكثير من تقنيات السرد، وهذا الضعف في النصوص ينسحب أيضا على بعض النصوص الذكورية المشاركة في هذه المجموعة.
يقول الناقد توما تشفسكي "ان وظيفة السارد هي تحويل الحياة الفجة الى صورة فنية". لكن بعض نصوص هذه المجموعة لم ترق الى مستوى هذه المقولة، واقتربت من ما اطلق عليها الناقد ياسين النصير "الواقعية الساذجة". ويبدو ان بعض كتابها لم يطلعوا على الأساليب والتقنيات الفنية اللاْزمة لكتابة نص أدبي، حيث افتقدت نصوصهم الى "الاختزال، التكثيف، الوصف، التشويق، عنصر الصدمة، الحوارات المقتضبة الموحية، الثيمات المبتكرة".
يعرف جيرالد برنس الحدث السردي بأنه " سلسلة من الوقائع المتصلة، تتسم بالدلالة، وتتلاحق من خلال بداية ووسط ونهاية".. لكن النصوص التي أشرت اليها لا تحمل من القصة سوى البعد الأرسطي "البداية والوسط والخاتمة"، وغاب عنها البعد الدلالي للحدث.. وهنا أود الاشارة الى جزئية مهمة وهي، ان العالم بأسره يعيش عصر التجريب في كافة مرافق الحياة، من علوم وآداب وفنون، وكل المنتج السردي العالمي يدور في فلك التجريب، وكما قال الدكتور علي جواد الطاهر "سيبقى العالم في انتظار المنجز السردي العظيم"، وأن مهمة النقد في الأدب، النظر بعين الطائر إلى النص الأدبي، والسعي الى تقويمه وأبراز مكامن الخلل والنجاح فيه .. وما ذكرته ماهو الا محاولة لدفع هؤلاء الكتاب الى مزيد من المثابرة والأطلاع ، للتمكن من أدواتهم السردية مستقبلاَ.
"بوح النواعير" احتوت على نصوص ناضجة رصينة لأسماء لها بصمتها في القص العراقي الحديث، استطاعت نصوصهم احداث توازن داخل المجموعة، وانتشالها من فخ الرتابة.. وسأتناول بعضا من هذه النصوص:
1- "العيادة".. صالح جبار الخلفاوي: نص ناضج مفعم بالدوال الحسية والمادية، لغة أنيقة مع عملية تبئير لجزئية مهمة من الواقع العراقي، تحكي قصة ممرض استغل عيادته الصغيرة لتلبية رغباته الجنسية، مع نساء محبطات متمارضات لكثرة الأرهاصات النفسية اللاْتي يعانينها، نتيجة الحروب والأزمات والانتكاسات، ومن ثم يصور لنا القاص، ما تعرض له البطل من قبل بعض المتشددين دينياْ نتيجة عمله هذا، استخدم تقنية التداعيات واستثمرها بشكل جيد لخدمة ثيمة نصه.
2- "فراشات النار".. عبد الحسين رشيد العبيدي: ارهابي يحاول تفجير نفسه وسط حشود من الناس، فيعدل عن قراره هذا ويرمي حزامه الناسف في حاوية للنفايات.. كان ايقاع الحدث سريعاَ متسلسلَا، بطريقة تحدث نوعا من المواءمة بين حركة البطل ومشاعره المستنفرة في تلك اللحظة، مستخدماَ أفعال ارادة بصورة متتالية "أستقل، أرخى، حول، أشعل، أحرق".. ثم ينتقل بالسرد الى أفعال توجس وخوف، تفضي الى قراره بالعدول عن تفجير نفسه "يلتمس، يختبئ، يعجن".. وكان للعنوان رمزيته للتعبير عن العلاقة الجدلية بين الفراشات والضوء، وهي علاقة قريبة للعلاقة التي ربطت البطل بالموت وفق مخيلته المتطرفة.
3- "رجولة امرأة" عبد الله عبد الحسين الميالي: يمنح هذا القاص نصوصه طابعا مسرحياَ ثورياَ، على غرار مسرح "برشت".. من خلال نوع الخطاب السردي، وواقعية الثيمة التي يختارها لنصوصه، وطبيعة اللغة المستخدمة ذات الطابع الحماسي، والتي تحمل بعدا وطنياَ كبيراَ، وهذا ما عبر عنه في نصه الذي يحاكي قصة امرأة من محافظة تكريت تصدت إلى الارهاب ببسالة وصبر، حين اجتاح مدينتها.
4- "النشالة" علي البدر: على الرغم من ان كاتب هذا النص حرص على منحه مسحة واقعية، من خلال استخدامه الأسماء والإشارة الى الاماكن، الا أنه حمل رمزية تشير الى الارتباط الفطري للانسان بأرضه، لذلك جعل من أبطاله مشجباَ علق عليه آراءه ومشاعره اتجاه وطنه، كان نصاَ جميلاَ، يخوض في غرائبية وعوالم ساحرة "سفن، حياة البحارة، مدن تعيش على هامش الحضارة، شخصيات استثنائية".. وظف لها مشاهد وصفية غاية في الاتقان.. سفينة "النشالة" التي تنقل الماء العذب من موانئ البصرة الى الكويت، كانت محوراَ لثيمة استحضرها القاص من التراث، ليصنع لنا مادة غنية بدوالها وعبرها الاَنية.
5- "لقاء آخر".. فاضل الحمراني: نص تجاوز حدود الزمان والمكان، وأبحر في الماضي القريب، استخدم فيه القاص تقنية الارتداد، عبر تداعيات نفسية وارهاصات عاشها البطل وهو يعيش لحظة ندم ووحدة قسرية، فرضتها عليه حياته العبثية التي تسببت في موت ابنته الصغيرة، وهجر زوجته له، مستخدماَ الوصف الأدائي، والتكثيف في تصوير المشهد الرئيس للنص، وهذا الأسلوب تميز به القاص كونه كاتب قصة قصيرة جدا متمكن من أدواته.
6- "عروس شنكال".. فلاح العيساوي: نص يحاكي مأساة الايزيديين الذين تعرضوا إلى القتل والتهجير والسبي على يد الارهاب، يبدأ النص هادئاَ، بلغة جميلة منسابة، ووصف دقيق وجميل للمشهد، يوحي بجمال وروعة المكان، والألفة التي يرتبط بها الناس معه "مكان أليف".. ثم يتغير ايقاع النص نحو السرعة والإرباك والخوف، ويتحول المكان الى "مكان عدائي" حين تهاجم داعش قريتهم، مما يجبر البطلة وحبيبها على الهرب نحو جبل سنجار طلباَ للأمان، لتنتهي القصة بمقتلهما .. ان هذا الانتقال السريع في ايقاع النص، ورمزية المكان، تنم عن قدرة امتلكها القاص في التحكم بأدواته السردية، وخبرة تراكمية اكتسبها نتيجة مثابرته على كتابة القصص القصيرة منذ عدة سنوات.
7- "نزوع مر".. كامل التميمي: نص يسلط الضوء على جدلية تعلق الانسان بأرضه البكر، استخدم القاص تقنية الاسترجاع، ليستحضر ماضي البطل في ثنايا حاضره، كان نصاَ مفتوحاَ، بلغة أنيقة بعيدة عن التعقيد، وتراكيب لغوية حداثوية موحية خدمت ثيمة النص، وظف له القاص خبرته في عالم السرد، وتمكنه من تقنياته "الارتداد، المنلوج الداخلي، القفز، التلخيص، الوصف".. رجل يستذكر حياته الماضية مع أرضه وأهل قريته، ورمزية "الشجرة
العجوز" كما أطلق عليها، التي كان يجلس تحتها في شبابه مع بعض سكان قريته القديمة، والتي تحولت الى جسر مكاني وزماني، ربطته بهذا الماضي الجميل.
8- "باب الطلسم".. مزهر جبر الساعدي: نص تاريخي يحكي قصة سقوط بغداد بيد المغول.. يمكن ادراج هذا النص ضمن "المنهج التاريخي" في كتابة القصة، يقول الناقد الجزائري سعيد علوش "ان خوض الفن القصصي في التاريخ، هو عملية مواجهة للواقع الذي مضى بواقع حاضر، مغذيا تطور حدثيته، انطلاقا من اعادة تكوين الواقع بمادة رمزية كتابية".. وهنا نجد ان القاص قد تماهى مع هذا المفهوم النقدي، حين أسقط التاريخ، وجعله رمزية لحال بغداد بعد الأحتلال، والفوضى التي خلفها وراءه.
9- "أفول".. ياسين خضير القيسي: نص مفتوح يحمل دوال رمزية لأرض غطتها الثلوج لسنين طويلة، لتشرق عليها الشمس فجأة .. لكن سرعان ما عاودتها الظلمة والثلوج مرة أخرى، انها محاكاة سردية للواقع العراقي قبل وبعد التغيير، كان القاص متمكناَ من لغته ويمتلك أحساسا شاعرا، حتى بدت قصته أشبه بالقصيدة النثرية.