ادب وفن

الأنثى الساردة في "أقصى الحديقة / عبد علي حسن

شغلت المرأة العراقية وقضاياها الاجتماعية والعاطفية موقعا مهما في منجز القاصة ميسلون هادي وتحديدا معالجة موقفها من الأسرة وعالمها الذي شكل العمود الفقري الذي يقوم عليها بناء شخصيتها الإنسانية وبما عرف عن المرأة العراقية من تفان وتضحية وإيثار من اجل قيام أسرة متماسكة تسودها المحبة. وتبدى ذلك على نحو واضح في مجموعة "أقصى الحديقة" فجميع القصص الـ25 كانت المرأة هي الساردة بضمير المتكلم وهي أيضا الشخصية المركزية عبر احتلالها موقع السارد، حتى تبدت عملية السرد بعدها الحدث الذي شكل احد أركان القص. إذ كانت المؤلفة تسرد قصصها الى متلق مفترض لتحكي له وتسرد أحداثا ومواضيعاً كونت مجالا يتحرك فيه السرد بعدّه حدثا مركزيا. وقد كانت في هذا الموقع الأنثى الساردة التي هيمنت على مجمل مجريات السرد وبذلك فقد تمتعت الساردة بحرية واسعة لبث وجهات نظرها في مجمل الموضوعات التي شكلت بؤرة السرد.
في نص "تجلس في الصف الأخير تخرج قبل النهاية" تقوم الساردة برسم مشهدية لعزلة امرأة "أم الخيطان" في بيت شبه مهجور إلا من سواها وثلاث قطط صغيرة وحديقة مهملة. إذ ان كل من كان في البيت قد رحل تاركين الأم وحدها تتوهم وجودهم في البيت عبر خاصية التخيل التي تبيح لها انسنة الأشياء لتقيم علاقة تشعرها بوجودها ووجود من رحلوا. ولتكريس بنية العزلة التي تعيشها أم الخيطان فان الساردة تنشيء منظومة من الموجودات كالهاتف النقال العاطل الذي تستخدمه لتحدّث نفسها والملابس التي لا تزال تعبق برائحة الكوي بالبخار وباب المطبخ والحديقة المهجورة، فضلا عن منظومة المتخيل لأبنائها ومن كان في المنزل قبل ان يهجر. ان تفعيل هذه المنظومات الساكنة وجعلها تتحرك ضمن علائق مع المرأة قد أسفر عن طرح حيثيات وجودية تشمل كل موجودات البيت بمن فيها الأشخاص، وتعريف المتلقي بالوضع الأسري قبل وبعد هجر البيت. فـ "أم الخيطان" تعيش ضمن افتراض وجود عالم سابق، فهي تخلق الوهم بالماضي وتنجح الساردة "المؤلفة" في تحقيق هدفها لتكريس بنية العزلة مكتفية بما تحمله من ذكرى ماضية لتعتاش عليها وليكون مدار حياتها في الراهن. فقد تشكل السرد من مجموعة من المواقف غير تراتبية للمرأة كيما ترسم مشهدا لحالة العزلة أولا وكشف قوة الانتماء الأسري الذي كانت تعيشه في كنف الزوج والأبناء. وما محاولة العيش في ذكرى الماضي إلا لتخلق معادلا موضوعيا لحالة العزلة التي تعيشها في الراهن ولتؤكد شدة ارتباط المرأة العراقية بالعائلة الى حد ارتباط وجودها الإنساني من خلال الأسرة.
هنا تتبدى السمة الأنثوية للنص فالساردة أنثى "راوية عليمة" والمسرود عنها أنثى تعاني أزمة نفسية جراء ابتعادها عن الفضاء الأسري ومحاولتها التشبث بما تبقى لها من ذكريات الماضي الأسري. كما وتبدت لغة الأنثى بائنة في التعبير عن الأفكار المباشرة وغير المباشرة للمرأة. خاصة في ما يتعلق بعلاقتها بأبنائها الذين تمتحن ولاءهم للأسرة عبر لعبة الدوران حول العالم وتخصيص مكافأة لمن يدور حول العالم ثلاث مرات بوقت أسرع من الآخرين. وتنحاز برؤية أسرية نافذة الى الابن الذي يشير الى عدم حاجته إلى الدوران حول العالم. فالعالم بالنسبة إليه هو الأم والأب فيدور حولهما ليفوز بالجائزة ولعل النص هو أيضا يتبنى هذه الرؤية لتخليق بنية الارتباط الأسري الذي تعيشه المرأة العراقية.
وفي قصة "الفيل والنملة" تتولى السرد راوية كلية العلم.. وتقوم باستثمار حكاية معروفة عن الفيل والنملة وتسردها لبناتها الثلاث. ويتبدى الاختيار السليم لهذه الحكاية من اقتراب مغزاها الحكائي من معاناة المرأة في المجتمعات البطرياركية/ الأبوية التي يقع الحيف فيها على المرأة بعدها مواطنا دونيا من الدرجة الثانية بفعل عوامل موضوعية أسهم في تخليقها العرف القبلي والديني وسواها. ومن هذه المجتمعات المجتمع العراقي وتنجح الساردة في إثارة سؤال عن رفض النملة لدعوة الفيل في الخروج معه في نزهة على شاطئ النهر طالبة من البنات الصغيرات الإجابة عنه. وبعد تقديم إجابات غير مقنعة بالنسبة للمرأة لقلة خبرة الصغيرات بمجريات الأمور وعدم قدرتهن على التوصل الى المغزى الذي يحيل الى الواقع بإيجاد القرائن الدلالية فإنها -- الساردة- تتولى الإجابة بان الاستجابة لدعوة الفيل إنما هي تفريط بسمعتها كأنثى وستكثر الأقاويل حولها بما يلوث سمعتها بين الناس.
ولإيجاد قرائن دلالية تحيل الى ما تعانيه المرأة في مجتمعات كهذه فإنها تؤكد ان محاولة الاقتراب من عالم الرجل حتى ولو كان الجلوس بجانبه في سيارة عامة وبصرف النظر عن عمره ووضعه الاجتماعي إنما هو مغامرة بسمعة المرأة. وتبدأ بسرد حكايتها مع ابن الجيران الذي جازف بحياته من اجل السرقة بعبوره الى الحديقة. إذ انتقلت الساردة الى فضاء مكاني آخر في عملية السرد هذه وهو الدائرة التي تعمل فيها. فهي قد اختصت بسردها هذا زميلة لها في العمل. لتؤكد ان معرفة الناس وسكان المنطقة التي تقطن فيها بعبور هذا المراهق لا يمكن تبريره أكثر من وجود موعد ما مع واحدة من بنات البيت على الرغم من تقديم الأسباب الفعلية لعبوره الى الحديقة وهو دافع السرقة إلا ان تعرضه إلى الصعقة الكهربائية من المبردة حالت دون ذلك واردته غائبا عن الوعي. إلا ان الساردة تؤكد عدم تصديق الناس لدافع الشاب وسيتكلمون عن أمور أخرى تضع سمعة البنات في موضع المساءلة على الرغم من تأكيد الساردة على انتماء هذا الشاب إلى عائلة تتمتع بسمعة جيدة في المنطقة فضلا عن صغر سنه. ولكن من أين للناس تصديق ذلك وعدم حرف الدافع الى جهة أخرى تضر بسمعة البنات ؟ ولم يكن هنالك غير اختيار مقترح من اثنين إما إبلاغ الشرطة بأمر التجاوز لأجل السرقة --وهذا ما كان يخشاه الشاب -- أو التقدم لزواجها وإسكات أقاويل الناس.
لقد عالجت الساردة في قصتها هذه واحدة من المشاكل الاجتماعية الخطيرة المكبلة لحركة المرأة في المجتمع العراقي وتضع الحواجز العالية بين المرأة والرجل لوجود أفكار عرفية مسبقة عن "عورة" المرأة وسهولة إصابة سمعتها بالضرر بسبب قربها من الرجل. على الرغم من براءة كل من الرجل والمرأة من الدوافع التي يحاول المجتمع تكريسها. لقد تمكن النص من تكريس السمة الأنثوية للنص فالسارد هي أنثى كما ان الشخوص الأخرى "البنات الصغيرات" اللواتي وصل إليهن تأويل المرأة لامتناع النملة الاستجابة لدعوة الفيل بخطاب وعظي لقلة خبرتهن وضرورة توعيتهن بخطورة سمعة المرأة والحفاظ عليها من التلوث فضلاً عن الموضوع الخاص بواحدةٍ من المشاكل التي تعانيها المرأة العراقية. أما لغة الساردة فقد كانت مقتربةً جداً من أفكار شخصيات القصة ومعبرة عن هواجس المرأة باسلوب احتكم في الكثير من تفاصيله بالبيان والبلاغة اللغوية وفنونها.
وفي قصة "بغداد عام 2093" تقدم ميسلون هادي تصورا مستقبليا لبغداد بعد مضي 90 عاما على التحول السياسي في نيسان 2003. وتقوم بعرض التصور هذا حفيدتها المفترضة التي جاءت من خارج العراق لزيارة عمها أمين في بغداد، ويمكن ملاحظة ان هذا التصور المتخيل يقوم على ماستؤول إليه بغداد مستقبلا نتيجة لما جرى ويجري في البنية الاجتماعية من احتراب طائفي وقومي وديني لا تعدم الأثر السلبي الذي لعبه الأمريكان في تأجيج تلك التضادات منذ 2003. ومن خلال ضمير المتكلم (أنا) تقوم الراوية كلية العلم حفيدة القاصة ميسلون هادي التي تذكرها صريحة في النص، بنقل وجهة نظر القاصة أصلا لما ستكون عليه بغداد مستقبلا. وتمتلك القاصة حضورا واضحا في النص على الرغم من موتها في ذلك التأريخ المستقبلي، وقد تبدى هذا الحضور عبر ما ورد في رواياتها التي تستعير منها الحفيدة نصوصا تتعلق بالرجال والوطن والمرأة في زمن كتابة الروايات التي تذكرها بأسمائها الصريحة. فالحفيدة ترى في بغداد مدينة بدائية تستهويها لأنها لم تألف ذلك في الدولة التي تعيش فيها مع عائلتها المهاجرة. ومن خلال هذا التناقض بين البيئتين نلاحظ مدى الخراب الخارجي والداخلي الذي يعيشه العراقيون وكذلك المظاهر البدائية للمدينة. كطبخ الطعام على الحطب المشتعل وحالة الطرق المزرية وما الى ذلك من مظاهر البدائية. ولم يتوقف الأمر عند ذلك وإنما تعداه الى طرح تصورات عن وجود دول داخل الوطن الواحد الذي لا يمكن التنقل بين "دوله" إلا بتأشيرة دخول لا تمنح بسهولة.
لقد كانت القصة محض تصورات تضمنها حدث السرد الذي قامت به الحفيدة كما ان السمة الأنثوية واضحة عبر السرد الذي قامت به الحفيدة وهي أنثى في الخمسين، فضلا عن وجهات النظر النسوية التي حملتها تلك التصورات سواء كانت تصورات الجدة التي نقلها العم أمين أم تصورات الحفيدة وقد تكفلت اللغة بنقل تلك التصورات بانسيابية وجمالية لغوية لافتة تمكنت من استيعاب التصورات الجديدة للحفيدة والتصورات القديمة للجدة. وقد توقفت مهمتها عند هذه الحدود دون قيامها بمهمة بناء حدث مركزي تراتبي. فلم يكن الحدث إلا السرد الذي قامت به الحفيدة. أما تصورات الجدة فقد تكفل بنقلها العم أمين عبر لغة إخبارية إنشائية واصفة في أغلب الأحيان.
لقد تمكنت القاصة ميسلون هادي في مجموعتها القصصية هذه "أقصى الحديقة" وفي جميع القصص التي ضمتها من تأكيد خاصية أسلوبية انطوت على جعل السرد الذي يقوم به السارد بعده حدثا مركزيا يشير فيه الى مجموعة من الآراء والأفكار والتصورات الخاصة بالسارد وموقفه من الموضوع الذي يعالجه، ولم تبتعد هذه الخاصية الأسلوبية عن هدف القاصة في الدخول الى عالم المرأة العراقية ومعالجة المشاكل الاجتماعية التي تواجهها في المجتمع الأبوي الذي يعد المرأة كائنا ضعيفا ودونيا. وقد توضحت هذه السمة الأنثوية لجميع نصوص المجموعة عبر الساردة الأنثى وكذلك الشخصيات المكونة للأحداث والمواقف التي كان للمرأة فيها حضور ينم عن ما تتعرض اليه المرأة من المشكلات التي اشرنا إليها وبشكل خاص تكريسها بنية العزلة التي تعانيها المرأة العراقية بعد هجرة الأبناء نتيجة لعوامل الانتهاك الوجودي للشخصية العراقية، فقد جرى كل ذلك كما كشفنا عنه في تحليلنا للنماذج المختارة من المجموعة، عبر لغة امتلكت خاصية أنثوية لإمكانيتها في التعبير عن الآراء والأفكار التي أرادت القاصة توصيلها إلى المتلقي. ان هذه المجموعة تضاف الى ما حققته القاصة ميسلون هادي خلال حياتها الأدبية الحافلة بالمنجز القصصي والروائي مما يضعها في منطقة متقدمة من المشهد القصصي والروائي العراقي والنسوي منه تحديدا.