ادب وفن

رشدي العامل صوت الشاعر المعلن في زمن الجواسيس / عدنان منشد

الكلمة الى جوار الكلمة عبارة عن جملة. والجملة بجوار الجملة هي مدونة.. حكاية ام قصة ام رواية. ام مقال. ولذلك سأضع الجملة تحتضن الجملة بشجن ووداعة، منذ البدء، ومع ذلك لن تكون النهاية مترعة بالعزوبة، فحيث الزمن الصعب والوجوه العابسة والافكار المجابهة العابثة لا يكون إلا الالم.
اسعى للكلمة الاولى من الجملة الاولى، فاتوقف عند 19/ ايلول من عام 1990 حينما غادر الشاعر رشدي العامل الدنيا، اثر حربين خليجيتين صفيقتين قادهما مشعل الحرائق صدام، واثناءهما امتهن قتل ابناء وطنه في قصف حلبجة وحرب الانفال، ثم قتله البشع لكل عراقي غيور ساهم في انتفاضة آذار عام 1990 التي حاولت الاطاحة بجبروته وغيه وصلافته المعلنة امام شعبه وامام شعوب كل العالم. وقبل ذلك كان هذا الدكتاتور الامي القبيح، قد سعى الى تصفية الرفاق الشيوعيين اينما وجدوا، ثم تصفية الوطنيين الديمقراطيين والقوميين العرب من العراقيين، حتى ?ان امتد به اللؤم والخيانة والحقارة الى فرز رفاقه من القادة البعثيين عام 1979، تاركا لذهنه المريض فرضية السؤال.. هذا الرفيق يفكر ورفيق آخر لا يفكر، ولهذا يكون الاختيار من نصيب الثاني، ذلك ان التفكير جريمة في عرفه، ولهذا اجهز على رفاقه القياديين في اول تسلمه للمسؤولية الحكومية والحزبية داخل العراق، ضمن مجزرة تاريخية مدمرة، لا يستوعبها حتى اللئام والسفلة من اتباعه ومريديه.
منعطفات مع رشدي في طريق الشعب
استذكر هذه المقدمة بحق الشاعر الراحل رشدي العامل، وتتناوشني الذكريات القديمة في اروقة (طريق الشعب) في منعطف من شارع السعدون في عقد السبعينيات الماضي، حيث الرفاق الاصلاء العاملون في هيئة التحرير، امثال شمران الياسري والفريد سمعان وفالح عبد الجبار ومصطفى عبود وعصام الخفاجي وفاضل ثامر وياسين النصير وزهير الجزائري ومخلص خليل وجمال العتابي ومصطفى عبود وحميد الخاقاني وعدنان حسين ونبيل ياسين وحسين الحسيني وعبد جعفر وحسين حسن والشهيد سامي العتابي وزوجته المترجمة عن الالمانية السيدة لمى سعيد واخرين، فضلا عن وجود شا?رنا الرفيق المنفلت والزاهد في الحياة والجاه والاهوال والاموال الصديق الكبير رشدي العامل، الذي قد يكون الاعذب والاجمل والاكثر هدوءا وشاعرية بلا منازع، من خلال شخصيته الطريفة المحببة لكل العاملين، بكيانه البشري الضعيف، وبرعشة يديه او اطراف قدميه حينما تعرض للتعذيب لمدمر في (قصر النهاية) اثر مقالة واجبة وملزمة عن معجون الطماطة في مطلع سبعينيات القرن المنصرم الذي لا اثر له فيه ضمن صناعتنا الوطنية، الامر الذي اثار حفيظة المقبور طع الجزراوي وقتذاك، حينما كان وزيرا للصناعة العراقية في حكومة البعث الثانية. وهكذا ح?ث ما حدث للشاعر الصديق رشدي العامل.
كان الاستاذ الرفيق عبد الرزاق الصافي اول رئيس تحرير لطريق الشعب في السبعينيات وهو الصديق والربيب الاول لهذا الشاعر، وكان شاعرنا الصديق رشدي يحظى بالرعاية والاهتمام من لدنه، خصوصا في حجز (اللوجات) في سينما النصر او سينما بابل القريبتين من ادارة (طريق الشعب) حينما كانت تعرض افلام شهيرة في ذلك الزمن، امثال فيلم (العصفور) ليوسف شاهين، وفيلم (الاسد في الشتاء) للممثل والمخرج الانكليزي بيتر اوتول، وفيلم (آه يا زمن) للمطربة شادية وحدها، الذي لا اعرف حتى الان من هو مخرجه هل هذا الفيلم من اخراج فطين عبد الوهاب ام حس? الصيفي ام من اخراج حسن الامام؟!
ايام تشابكت وتناثرت بفعل ذلك الزمن مع هذا الشاعر الخمسيني المجبول على التحدي، ولكن فعل وذاكرة الايام والسنين وما يتراتب عنها، ما زالت قريبة من افئدتنا ومنها جولاتنا المستمرة في حانة اتحاد الادباء او حانات ساحة النصر، او المائدة اليومية المستمرة في ركن المناضل توفيق الخياط، في ذات شارع السعدون نفسه، واحسب هذا الشاعر الصديق كان يلقاني في كل لقاء وبلا مقدمات في قلب الجماعة الشيوعية المفقودة او المفتقدة في الزمن الثمانيني المنصرم فتنسى انك لا تعرف عنها وعن افرادها شيئا او يلتقي بك هذا الشاعر في العديد من الامك?ة وقتذاك، ما يحوي من احداث ضمن المعترك. وكان يحكي ويقول: وكان بارعا في القول.
رشدي العامل.. ببلوغرافيا الابداع
عرف عن رشدي انه من مرحلة ما بعد الرواد في الشعر العراقي الحديث في خمسينيات القرن الماضي، وهو من مجايلي الشعراء (سعدي يوسف، يوسف الصائغ، عبد الرزاق عبد الواحد، محمود البريكان، حسين مردان، واخرين) ومن دواوينه المعروفة.. (همسات عشتروت) 1951 و(اغاني بلا دموع) 1956 و(عيون بغداد والمطر) 1961 و(للكلمات ابواب واشرعة) 1971 و(انتم اولا) تاريخ النشر (؟!) ثم (شجرة الالوان) 1983 و(حديقة علي) 1986. ثم جمعت هذه الدواوين باصدار كامل في مجلد لاعماله الشعرية الكاملة في عام 2006 باصدارات دار (المدى) للثقافة والفنون والاعلام.
اول مقالاته الصحفية السياسية الشهيرة، ابتدأت في صحف العهد الملكي الوطنية، ثم ترسخت في جريدة (اتحاد الشعب) بعد ثورة 14 تموز، ثم عمل في جريدة (التآخي) اواخر الستينيات من القرن الماضي، بعنوان (نصف عمود) واخيرا في جريدة (طريق الشعب) حينما اصبح كاتبها السياسي المعلن، وان لم يذكر اسمه في عمود الصفحة الاولى (الافتتاحية) او العديد من الصفحات الاخرى، لاسباب عديدة واعتبارات شتى، لعل اولها واخيرها محاولة الجريدة المذكورة في الحفاظ على كيان وصحة رشدي العامل التي لا تتحمل من العمر عذابا، بمواجهة اجهزة الامن البعثية الد?وية، وترسانتها المتعددة واشقيائها المتهورين الذين قد لا يقيمون احتراما او وزنا لهذا الشاعر المناضل الشريف.
رشدي في حله وترحاله
رحلة طويلة مترعة بالمحن والعذابات وعجيبة قادها الشاعر رشدي الكبير منذ اعوام الخمسينيات من القرن الماضي، وما زالت صورتها مجلية وبارزة في ذاكرة المشهد الثقافي العراقي، حتى وان كان رشدي يعتمر عباءة الشاعر (ابي نؤاس) المنفلت الكبير في حله وترحاله، في اشجانه العديدة المعذبة، وفي قامته الشعرية الهائلة رحماك صديقي الشاعر (ابو علي) القدير ايضا هذا الحل والترحال، وحتى يوم مماتك، اذ وجدت فيك الانسان الذي لا يحتمل التجريح او الاساءة.. وحسبي الان ان تكون حاضرا بيننا، لكي تفهم ما يحدث بيننا، ضمن ظروف وملابسات متعددة، و?صحيح الخطأ اينما وجد، حينما تكون انت الاوفى والاصدق والمجلي المعروف بين الثلة المعروفة من الشعراء العراقيين.
في الاخير لن انسى ما حييت قولك يا رشدي في زمن الجبهة الوطنية السابقة وانت تقول ضاحكا.. ان هذه الجماعة من البعثيين هي عبارة عن جسد ديناصور وعقل عصفور، اذا حدث جديد اخبرني، فهي جماعة تمارس الاكشن والاثارة. واحسب ازاء هذه النصيحة الحكيمة، لم يتعرض لي اي بعثي، من الادباء والفنانين المحسوبين على ذلك الزمن، اذ فعل هذه التقية، التي الهمني بها هذا الشاعر كانت كافية لاحترامي وحضوري ووجودي في المشهد الثقافي السابق، من دون ان يتحرش احد بنا نحن الاثنين.
******
هي مرحلة طريفة وذات معضلات كبرى، ولكن ما ارقى مأساويتها الناصعة في ذلك الزمن المحتدم العجيب؟! والسؤال، هل كنا معا في ذلك الزمن نعيش التراجيديات التاريخية لمتون شكسبير، ام نتساوق مع فكاهيات مولير، ام كنا نعيش معا ضمن عصر الغجر والاقزام واشباه الشعراء والممثلين.
رحماك اخي رشدي الشاعر، حينما لم تكن حاضرا في مهزلاتنا العجيبة الراهنة.