ادب وفن

الفن واستحالة النص .. المكان الروائي أنموذجا / جاسم عاصي

عالج الباحث والناقد ياسين النصير خصائص وتوظيفات المكان وكل ما له تماسّ وعلاقة جدلية بأسس المكان وجمالياته، متخطياً بذلك ما أملته وأشرته البحوث على شتى الأصعدة، منها الاجتماعية والفلسفية. وهذا التخطي واصل تجواله المعرفي ــ الفكري، ضمن ضروب فكرية عامّة، وفلسفية خاصة. مما أضفى على دلالة المكان أبعاد جديدة، كان لثراء ملَكته الفكرية دور في توسيع دائرة المعارف في ما يخص المكان. وكانت لنا مداخلات حوارية استقرائية واستنتاجية مع ما أنتجه من كتب في هذا الشأن ومن تطبيقات في رؤى المكان. ولعل كتابه "الرواية والمكان/ دراسة المكان الروائي" فيه ضرب من دراسة الجوانب العملية الميدانية، أي الجانب التطبيقي في النص، ومحاولة اكتشاف خصائصه داخل النصوص الروائية بعامة والقصة القصيرة بخاصة.
وقد حاول الباحث قدر ما توّفر له أن يدرس الأمكنة في النصوص، وأن يرى تماهيها ذهنياً في البعض الآخر. ولعله في هذا أشار إلى ما يعنيه المكان في النص، باعتباره معلم فاعل يدفع بمكوّنات النص إلى أفق رحب ومتمكّن. وفي هذا المبحث، انتبه إلى دور الشخصية في المكان الروائي العراقي، مما أضاف بطبيعة الحال إلى جملة مكوّنات النص الأخرى بُعدا وعنصراً فاعلاً، باعتباره عنصرا مهما ونظم للأفعال، له صلة بالتاريخ العام من جهة، وتاريخ الشخصية من جهة أخرى. وأرى أن المسوحات التي أجراها على نصوص كثيرة، كفيلة بأن تُحقق الأساس الذي بنى عليه استقراءاته ورؤاه لدور المكان في الرواية. وهو ما يخص الجانب الفكري الذي سنجري له مقاربة لقراءة لها علاقة بما قدمه "النصير" في معظم ما ألّف ونشر من بحوث، نجدها مؤشرات لنا جميعاً، لاسيّما من يحرص على تأسيس ركائز متينة لمعارفنا وثقافتنا الوطنية.
المكان باعتباره قيمة فنية وموّضوعية، تحصل عليه مداولة في الحوار الثقافي، بمعنى أن النص حمّال للخصائص، ولعل أهمها تبلوّر الصورة الواضحة للمكن، أي الحاضنة والناظم لكل الأفعال داخل حياة النص. لذا نجد "النصير" يؤكد أن استحالة الفن بدونه. وفي هذا تأكيد على أن الجُهد الذي يبذله كاتب النص، في تجسيد مواصفات المكان، قد يؤدي إلى ضعف النص، إذا ما كان تناوله فيه شيء من الضعف الرؤيوي ذي التماس الجدلي معه. فالتقرير الذي يُقدم ضمن اساليب عرض مكوّناته، يتطلب وعياً للأمكنة، لأنه يشكّل اللبنة المهمة التي ترتكز عليها الأمكّنة الأخرى. لذا نجد أن "النصير" وهو يُعالج المكان في الرواية، إنما يؤكد على نشاطه البنيوي، الذي يصطف مع كل الرفعة الفتية، كذلك مؤثراته المباشرة وغير المباشرة. لكنه يخلص إلى التظافر بين عناصر النص، مشيراً إلى العلاقة الجدلية بين النص والتاريخ. إذ يكون المكان أكثر فعالية في تشكيل متن النص. فـ "التاريخية في جملة مفاهيمها، هي تجسيد لطريقة الحياة" إذا ً ثمة علاقة جدلية بين وجود النص بمحتواه المتكامل والمتوازن، وبين تشكيل الحياة، بما يؤهل النص، بأن يكون شاهداً على الزمان والمكن. هذه المداولة وإن كانت معنية بالفن، إلا أنها تنحو باتجاه جدلية عامّة في الوجود الإنساني.
تنويعات ونماذج
النظر إلى العلاقة بين الرواية والمكان في مداولات "النصير" تبدأ من حتميتها، ومن أسس بنيتها المنتجة للنص. فالنماذج التي درسها لن تكن سوى عيّنات دالّة على هذه العلاقة. صحيح أن العلاقة تتغيّر، غير أن الثابت فيها والباقي هو وجود المكان كفاعل وناظم للمكوّنات الأخرى للرواية. فبين الرواية كفن وبين مكانها كتاريخ وكبلد ــ كما ذكر الباحث ــ تتشكل البنى الفكرية، لأن التعامل مع المكان كالتعامل مع الشخصيات، لأنها نتاج الأمكنة، بمعنى انحداراتها الطبقية والفكرية، فالشخصيات تُمثل أمكنتها، أي تاريخها وفكرها. فقد شهدت الأمكنة، بل كانت شاهداً على أحداث ومفاصل من تاريخ العراق، ففي المُدن شهدت الأمكنة الانتفاضات والثورات كدليل على ما ذكرنا، كذلك الصراع الطبقي والفئوي داخل بيئة الريف، أفرزه واحتضنه المكان. لأن الأفعال لا تتم إلا في الحيّز المكاني "الأرض، الشارع، الحقل، وسائل الانتاج الزراعي" وما الأمثلة التحليلية التي قدّمها "النصير" في بعض روايات الخمسينيات من القرن السابق، إلا تقديم عيّنات على وجود المكان وفاعليته ضمن العلاقات العامّة في المجتمع، سواء المديني والريفي. والنماذج هي "جلال خلد/ لمحمود أحمد السيّد، اليد والأرض والماء/ لذنون أيوب، مجنونان/ عبد الحق فاضل" هذه النماذج أكدت بالفعل وجود المكان الفاعل في النص. والباحث في سياق تقييمه لهذه النصوص، قد أكد على مستوى البناء الفكري وعلى طريقة التعامل مع المدينة والريف. إذاً كانت هذه العلاقة بصياغاتها للمكان وفق منظور فكري، قد اختارت الطريقة والأسلوب الأمثل في التعامل، بما خلق تعالقاً فكرياً. بمعنى رشّحت النصوص جدلية العلاقة بالمكان، لارتباطها بالسلوك البشري معنيّ بالبنية الفكرية. وهي الصياغة الأمثل التي أكد عليه "النصير" في دراسة المكان. وفي هذا كان التأكيد على البنية السياسية التي هي وليدة البنية الأكبر، قد ساهمت في صياغة صورة المكان، كالسجون والمهاجر ــ المنافي ــ وغرف التعذيب. فقد ارتبطت ــ أي الأمكنة ــ بحراك عام، حراك الشعب والفئات والقوى الثائرة والمحتجة على النظام السياسي عبر تاريخ العراق. فالشارع مثلاً كان له وجود فاعل تجسد على وجود المنتفضين والثوار، وكان السجن والموقف مأوى لهم. هذه الأمكنة ذات طابع سياسي حين تكون فيها الممارسة السياسية الجماهيرية. وهكذا فعلت الرواية الخمسينية. وكما اكد الباحث في معالجته لرواية "النخلة والجيران لغائب طعمة فرمان" في كوّنها "عُدّت منتجة للقيمة التاريخية المخزونة في المحلة الشعبية" وهكذا أدت الرواية وظيفتها التاريخية، عبر تجسيد العلاقة بالمكان "منزل سليمة الخبّازة، النخلة، المحلة الشعبية".
في هذه الأطروحات نرى أن العلاقة بين الرواية والمكان ــ وكما ذكرنا ــ هي علاقة جدلية، خاضعة للعلة والمعلول. فالرواية لا تقدم ديكوراً على أنه مكان، وإنما تلاحق العلاقة البنيوية بين الإنسان والمكان، فوجود الإنسان بطبيعة الحال في المكان، أي صنيعته فكرياً. كذلك يكون وجود المكان بما ينتجه من بنى رافدة وصاعدة بوجود الانسان. فالمكان بنية موّضوعية تنتج عالما هو إفراز لصراع عام. لذ فمكان الروية يشكّل قيمة معرفية فكرية. إن الباحث يجتهد في تصنيف المكان، وتقسيمه وفق خصائصه الفكرية وكالآتي:
* - إن الإحساس بالمكان نتيجة انعكاس الواقع الموّضوعي على مخيّلة الفنان.
* ــ إن المكان لا تكون له قيمة فكرية إلا إذا كان نتيجة عمل الإنسان.
* ــ تقسيم المكان إلى "موّضوعي ومفترض" لا يضع فواصل، وإنما كان نتيجة وعي الكاتب بأهمية المكان، أي الإحساس به.
* ــ إن المكان ليس حدود، بل أنه هو جزء من عملية البناء الفني.
هذه التوّصيفات أحالت بطبيعة الحال المكان إلى موّقع فني موّضوعي، له علاقة مباشرة بتاريخ الشخصية. وهو من بين التوصيفات الجمالية في النص. ولعل الرواية تعاملت مع المكان وفق وعي مستلزماته وطبيعته و علاقته بالتجربة الحياتية، لذا استطاع الباحث أن يؤكد أسسه في النص، فصنّفه على مستويين؛ الأول: مكان الذكرة، والثاني كان بمثابة مكان وقعي. وفي هذ نجد أن حركة بنية النص كان لزاماً أن تكون على مستوى الفعل ورد الفعل. ففي الأول، لم تجتز البنية مسار المكان وصورته في الآن كفعل درامي جار، بل كانت استعادة لصورته. بمعنى غدا التراكم الكمي لصور الأمكنة، من يخلق مكان النص. بينما في الثاني، كانت مجريات الأحداث، ووجود الشخصية في خضّمها هو المحقق لخاصية المكان. والذي يخلص إليه "النصير" من مبحثه، أن مرتكز النصوص كان على تنوعاته كالمدينة والريف، وبما تحتويان من أمكنة كالأزقة والشوارع والمنازل والفضاءات. غير أن ما يلازم هذه النصوص هو الأهم، فقد خلقت بعضها مكاناً متخيلا وآخر واقعياً. وطبيعي أن يكون التعامل في ذلك على ذهنية الرؤى وخوض التجربة في المكان. المكان في الأول ثابت الصورة، لأنها تستنطق المستعاد، وفي الثاني تستنطق المتنامي. وهذا له مرجعه الفكري أساساً، ومحصلته الفكرية، كوّنه أي ــ المكان ــ محصلة فكرية.
المكان والمفهوم
يُقدم الباحث تصوّرات كثيرة من خلال تطبيق رؤيته لأسس المكان، وفعاليتها في النصوص الروائية. ويصل بذلك إلى خلق مفاهيم، هي من باب الخلاصة لهذه الرؤى، التي تؤسس لمتن نقدي منهجي لمعالجة المكان، بمعنى ان "النصير" بسياحته هذه، ومن خلال سياحات أخرى ضمن مؤلفات المكان، إنما يؤسس لمنهج قراءة المكان. وقد توّسعت دائرة رؤاه، حتى غدا لا تقيّده الأشياء والرؤى والأجناس سوى فعالية صورة المكان. لأنه أساساً ارتكز على خلاصة مفادها؛ إن المكان ارتبط بوشيج العلاقة بالفكر، فهو مختبره المتحرك. لذا لا ينفك عن تداول كل المعارف والرؤى وفي هذه الدالّة في الوجود. مما خلق جملة مفاهيم، مبتدئا من الانتباه إليه من قبل ممارس السرد القصصي والروائي. فالمداولة الفكرية بطبيعة الحال لا تضيّق من مجال لتحرك في تطبيقات المكان في النص، بل تُشرّع له الأبواب والمجالات، والدليل على هذا سعة ما توّصل إليه الباحث من تطورات رؤيويه وميدانية تطبيقية لصورة المكان. إنه يحرث في الموجود المهمل، من أجل فتح آفاق واسعة مرتكزها يكمن في الأنثروبولوجي والنفسي والسيسيولوجي، والتاريخي. فالمكان في واحدة من تجليات "النصير" كوّنه ناتجا اجتماعيا، يؤشر تفاعل الإنسان مع مجاله. وهذا يسحب بطبيعة الحال جملة تفاعلات في المكان وفق تنوّعه، كالمكان المفتوح والآخر المغلق، المكان الأليف وغير الأليف، المنتِج وغير المنتِج. وغير ذلك من التصنيفات التي هي خلاصة لطبيعة المكان وخصائصه الذاتية. كذلك علاقة المكان بالزمان، لأنه الإطار الفني لمحتوى متحركٍ ونامٍ، فالمكان لا تنمو عناصره دون الزمان، لأنه كمفهوم يرتبط بالفعل ورد الفعل، وهذا يرتبط مع وجود الإنسان وفاعليته في المكان , إذاً العلاقة هنا جدلية بين ثالوث عناصره "المكان، الزمان، الإنسان".
إن مثل هذا المحرك المفاهيمي، يؤدي إلى حراك في الوعي، أي أن المكان بكل هذه التوّصيفات قادر على خلق الوعي المتنامي لدى الإنسان، لأنه ناظم للوعي. فإنسان المدينة، يمتل وعيا مدينياً، ومكان الريف أيضاً له تأثيراته في خلق وعي خاص لدى إنسانه. لذا يجد "النصير" أن جملة المؤثرات أكدت علاقة الإنسان بالمكان من خلال "النصوص الروائية. ولعل بعضها قد أشار إليه جاستون باشلار في كتابه "جماليات المكان" والآخر كان من اجتهادات الباحث عبر تواصل تطبيقات رؤاه على المكان، فــ "البئر، المقهى، الكوخ، الغُرف، السرداب، الديوخانة، السلالم، الشارع، الصحراء"، هذه الأمكنة انفتحت عبر الرؤى المتحركة للأمكنة المتصوّرة، فالمكان يركز عليه الذهن الفردي والجمعي. لكن فضيلة وعي "النصير" في فتح عتباته لاحتواء كل ما هو جارٍ في الوجود والحياة. لذا توّسعت في ميدان بحوثه تنوعات المكان وايقاعاته، سواء كان في المدينة أو الريف.