ادب وفن

قراءة في مذكرات زوجة دستويفسكي أنا غريغوريفنا فيودور دستوفسكي الانسان / ساجد خضير التميمي

لا شك في أن قراءة مذكرات زوجة دستويفسكي الثانية بخصوص حياته الشخصية ومزاياه وعيوبه، وهو الكاتب العملاق الذي شغل العالم اكثر من قرن ونصف, تكوّن لدينا انطباعات عن شخصية دستويفسكي من خلال شخص عاش معه 14 عاما مملوءة بالمشاكل والصراعات وكذلك بالابداعات والنجاحات.
كانت أنّا غريغوريفنا خير رفيق وملهم للكاتب العظيم بدأت بتدوين وطباعة فصول من مؤلفاته وانتهت قارئة وناقدة لشخوص رواياته قبل ان ترى النشر، واعانته في محنة المرض وازمة الديون وصراعه مع القمار.
قرات هذه المذكرات القليلة الصفحات عدة مرات لأرى دستوفسكي من زوايا مختلفة وآرى دور هذه المرأة الشابة في حياته وآبداعاته وهي التي انارت حياته البائسة وآرى ان التقط بعض المقتطفات من الكتاب والتي ستعطي القارئ صورة واضحة عن ملامح شخصية هذا الكاتب العظيم , رغم ان الموضوع لا يكتمل بهذه السطور البسيطة.
الصورة الاولى
في وصفه لحظات ما قبل الاعدام الذي صدر في حقه بتهمة التآمر على النظام في 22 كانون الاول 1849 يقول دستويفسكي: "كنت واقفا في الساحة اراقب بفزع ترتيبات الاعدام الذي كان سينفذ بعد خمس دقائق. كنا في قمصان الموت موزعين على وجبات ثلاثة, وكنت الثامن في التعداد ضمن الوجبة الثالثة. اوثقوا الثلاثة الى الاعمدة وبعد دقيقتين يطلق الرصاص على الوجبتين الاوليتين ويأتي دوري... يا الهي ما اشد رغبتي في الحياة تذكرت كل ماضيي الذي هدرته واسأت استخدامه , فرغبتُ في الحياة من جديد وفي تحقيق ما كنت انوي تحقيقه لأعيش عمراً طويلاً... وفي اللحظة الاخيرة أعلن وقف التنفيذ , حلوا وثاق رفاقي وقرأوا حكما جديداً على كل منا , وكان من نصيبي هذه المرة الاشغال الشاقة أربع سنين. فما اعظم سعادتي امضيت باقي الايام قبيل الرحيل الى المنفى اغني واترنم في الثكنة , ما أشد فرحتي بحياة وهبت لي من جديد".
الصورة الثانية
في بداية العمل مع دستويفسكي في طبع فصول من كتاباته مقابل أجر لاحظت أنّا غريغوريفنا مدى ذكاء وطيبة قلب هذا الرجل ووصفته "لأول مرة في حياتي أرى أنساناً ذكياً وطيب القلب الى هذا الحد , لكنه تعيس بنفس القدر. وكان الجميع أشاحوا بوجوههم عنه , فتألمت وشعرت بالإشفاق عليه"
الصورة الثالثة
كان اعجاب دستويفسكي وحبه السريع لرفيقة عمره الشابة ذات العشرين ربيعا قد أنار حياته المتعبة من جديد واعادت له شبابه بعد شعوره بشيخوخة مبكرة حيث كان عمره انذاك (في العام 1866) 45 عاما واليكم وصف دستويفسكي لنفسه مقارنة مع أنّا "الحقيقة كنت بائسا ,وكنت اعتبر الزواج منك تهورا وجنونا, فالتفاوت بيننا رهيب, انا شيخ عجوز تقريبا وانت في عمر الطفولة وفارق السن بيننا ربع قرن, انا مريض كئيب سريع الأنفعال , وانت مفعمة بالحيوية والمرح , أنا انسان مستهلك اكلت عمري وتجرعت المصائب والأهوال , وانت تعيشين حياة هانئة والمستقبل كله امامك , ثم اني فقير مكبل بالديون , فماذا انتظر"؟
الصورة الرابعة
نقلت أنّا غريغوريفنا صور متعددة عن نوبات الصرع التي كانت تداهم دستويفسكي وتحيله الى كيان محطم وغريب منذ فترة ما قبل الزواج الى حين وفاته في بداية عام 1881.
"كانت نياط قلبي تتمزق وانا اسمعه يزعق بصوت لا يشبه أصوات البشر ثم اراه يتلوى ويخر على الارض متشنجا. وعندما ألفيته اول مرة يتضور ألما ويصرخ ويئن ساعات بلسان متلعثم ووجه ملتو وعينين جامدتين ظننته مجنونا مختل العقل. لكنه , و الحمد لله , كان يغفو طويلا ويستيقظ بعد ذلك سويا كالأخرين , لولا الكآبة التي تظل تلازمه اكثر من اسبوع وكأنه فقد اعز ما لديه في الدنيا على حد تعبيره".
الصورة الخامسة
بذلت أنّا غريغوريفنا جهودا مختلفة ومتناقضة بين الدعم والتشجيع وبين النصح لاخراج زوجها من محنة الادمان على القمار والتي عانى منها دستويفسكي عشر سنوات لاقى خلالها الافلاس وتأنيب الضمير. وكان يتردد على صالات لعبة "الروليت" في المدن الاوربية وبالاخص الالمانية، وقد جسد هذا الصراع والرحلة مع القمار في روايته "المقامر"... تقول أنّا: "في البداية استغربت من هذا الرجل الذي تحمل بمنتهى البسالة آلام السجن والاعدام الوشيك والنفي والاعمال الشاقة ووفاة اخيه وزوجته، لكنه عاجز عن التوقف والامتناع عن المجازفة بآخر فلس , وكنت اعتبر ذلك امراً لا يليق بمنزلته ويصعب ان اعترف بنقطة الضعف المشينة هذه من طباعه , لكنني سرعان ما ادركت ان ذلك ليس مجرد ضعف ارادة بل هو مرض لا علاج له سوى الفرار من جحيمه".
الصورة السادسة
خسر الزوجان كل ما يملكان من مال بسبب تردد دستويفسكي على صالات القمار عند اقامتهم اربع سنوات في اوربا. وكان هذا الامر يقوده الى صراع حاد مع نفسه ويبكي بحرقة راجيا ان تسامحه زوجته لأنه اضاع ما يجب انفاقه عليها وعلى ابنتهما "لوبوف". وأخيرا، هكذا تقول أنّا "خسر زوجي كل ما عنده , وتعرض لتأنيب ضمير لازمه اسبوعاً لأنه حرم زوجته وابنته من لقمة العيش. ولكنه صمم هذه المرة على التخلص من هذا المرض الذي عذبه طوال عشر سنين , ووعدني بعدم العودة الى القمار مدى الحياة. ولم اصدقه بالطبع فما اكثر ما كرر وعده في ما مضى. ولكنه وفى بوعده هذه المرة , وانقطع عن اللعب الى الابد".
الصورة السابعة
رغم ما عانت أنّا غريغوريفنا مع زوجها من الديون المتراكمة التي لاحقته حتى اخر ايام حياته وضغوط الدائنين عليه، ورغم نوبات الصرع التي رافقته ومرضه الذي قضى عليه (الانتفاخ الرئوي) ورغم العيب الشنيع في شخصيته المتمثل في ادمانه على القمار، وصفت حياتها معه بالقول: "رغم الصعاب والآلام التي عانيتها في ما بعد, اعتبر نفسي سعيدة للغاية, ولا أرى حياة افضل مما عشت".