ادب وفن

"قاتل معلن".. المخيلة وتركيب الصورة الشعرية / داود سلمان الشويلي

تمنح النصوص الشعرية في "قاتل معلن" لذائقتنا الشعرية وقتا لتذوق الشعر، خاصة شعر التفعيلة، بعد أن كاد الكثير من القصائد المكتوبة والمنشورة على انها قصيدة نثر أن تسهم في القضاء عليه، وتضربه الضربة القاضية، وتخرجه من حياتنا الأدبية الى الابد، الا ان هذه المجموعة الشعرية، وغيرها القليل، تلاقفته من بين براثن النسيان، وما ينشر في هذا الزمن مما يطلق عليه تسمية شعر رغما على انف الشعر.
لا أريد ان اكتب مقالة تقريضية عن مجموعة " قاتل معلن " للشاعر عمار كامل داخل بقدر ما أريد ان ابين مجموعة من الامور التي تمتاز بها قصائدها التي كتبت على نهج قصيدة التفعيلة التي أوشكت أن تفقد حضورها في الساحة الادبية بعد ان رحل روادها، والتابعين، وتابعي التابعين، بإحسان ادبي مبدع مبين.
ان ما تتميز به قصائد هذا المجموعة التي صدرت حديثا هو انها:
- كتبت بأسلوب قصيدة التفعيلة التي اختارت بعض الأوزان لتصوغ أفكارها ورؤاها على منوالها، حتى ان الشاعر في النسخة ما قبل نسخة المطبعة وضع احدى القصائد بالطريقة العمودية.
يقول في قصيدة "الفرات":
* "عانق ثرى ذي قار قد حل الردى فالموجة الزرقاء تندثرُ
من ذا الذي أفنا سنينك كلها شيخاً وئيد الحزم يحتضر
يا نهر ما جفت ضفافك عمرها أبداً ولا قد هدك السفر
كم من قفار مجدبات خضتها ضراً وفيها الزهرُ والثمرُ
وتطاولت قطرات مائك كلها سحبٌ بها من جودك المطر
أفرات كم رقصت على صفحات مائك أنجمٌ وتلألأت صورُ
أترى تعود بك الليالي عاشقاً وينامُ في أحضانك القمر".
- تبنى قصائد المجموعة على صور شعرية عالية الدقة وشفافة عن واقع العراق في الوقت الحاضر وهو يمر بأصعب مراحله، فعكس بذلك هموم وآلام ابناء العراق الغيارى في شعره.
يقول في قصيدة "رحيل":
* "أيها الموت. . انتظرني
خلفي آلاف الجثثْ
كلهم موتى.. وإن لم يعلموا
هكذا الموت عليهم سيقامرْ
كلهم موتى وإن لم يشهدوا
كيف بالزور سنحيا سعداء
عندما نفقد معنى الانتماء"
وكذلك عن الامور الحياتية اليومية للشخصية العراقية كما في قصيدة "مرتد!":
* "مرتدٌ أنت ولا تدري
فالموت طريقُك.. لا تجزعْ
تُصلب أو تقتل سيان
فالسيفُ سيحتز وريدك
وتموت بهذا أو ذاك
لا باب.. تختبأ وراءه
لا حفرة جرذٍ
لا عشٍ ينجيك ولا خندقْ
فأقرأ أسفارك في صمتٍ".
ولما كانت قصائد الشاعر في مجموعته هذه تتميز بالصورة الشعرية التي وصفتها قبل قليل بأنها "عالية الدقة" و"شفافة"، والشعر هو صورة يتحول فيها القول الى الايحاء، فانها تكون وسيلة الشاعر المقتدر، وبيان حقيقة تفرده من بين الاصوات الشعرية الاخرى، لهذا تلعب المخيلة الشعرية دورها الكبير في خلقها، وبنائها، بتميز، وجعلها مؤثرة في المتلقي.
واذا كانت الصورة في المفهوم البلاغي النقدي القديم تعتمد التشبيه والاستعارة خاصة، فان النقد الحديث وسع من ذلك المفهوم، فأصبحت الصورة تبنى على الحقيقة وليس المجاز، التشبيه او الاستعارة، لأنها اتت من خيال نشط وخصب، حيث بات جمال وتأثير وقوة الصورة لا ينبع من التشبيه او الاستعارة فحسب، وانما بما تنقله من صور حسية وذهنية.
سأتحدث عن الصورة الشعرية المحسوسة "واقعية او متخيلة"، والصورة الشعرية الذهنية، ذلك لأن جميع الصور الشعرية التي تبنى عليها القصائد هي من هذين النوعين بصورة عامة، محسوسة وذهنية، ثم بعد ذلك تأخذ لها تفرعات كثيرة.
في الصورة الذهنية نلتقط الكثير منها، إذ في قصيدة "وحدي أسافر":
* "أحتسي الشك على باب الحقيقة".
أو كما يقول في قصيدة "اغتراب":
* "فكل شيء حوله
ينم عن ضياعْ
بلا انتهاء... والصدى
يشربنا فننتشي...
من انحسار موجة الأملْ".
أو كما في قصيدة " عرض مباح " :
* "كضجيجِ رقاصٍ
يئِنُ مِنَ الرتابةِ بين ليلٍ
ينقضي متوجعاً
يَلدُ الصباحْ
متكاسلاً يخْبوُ الطريقُ أمامهُ
دوْن انتظار
شيئاً فشيئاً يختفي
كالنجم يبلعُه النهارْ".
أما الصورة المحسوسة في قصيدة "عرض مباح" التي يقول فيها:
* "الليل يَهبطُ كالسِتَارِ على النهارْ
والريحُ تصفرُ في المَدى
كنشيجِ نائِحةِ الثكالى في الغُروبْ
تدمَى بِشوكِ النائباتِ
المُقلتانِ علَى الدرُبْ".
فإن الشاعر يصور الغربة التي يعيشها في وطنه، فتراه يأتي بالمحسوس لأنه الأقدر على تمثل الحالة النفسية التي يعيشها، وتعتمد الصورة هذه على مظاهر الطبيعة من الليل، والريح، والغروب، مزاوجا معها ما يفيض به الواقع المحسوس من صور مثل : صمت القبور، والسجين.
ان تركيب الصورة الشعرية من مظاهر الطبيعة والواقع المرئي المحسوس قد خلخل ذائقة المتلقي فراحت تطرح الاسئلة وتبحث عن الجواب، وبهذا اوصل موضوع القصيدة الى ذائقته الاستقبالية.
يقول الشاعر في قصيدة "وحدي أسافر":
* "هكذا وحدي أسافرْ
كالغبارْ
تائهاً حول المجرة
راكضاً حول سرابٍ
كالرياح
عابد أتلو صلاتي
دامع العين كأحداق اليتامى".
فالغبار، والمجرة، والرياح، وهي من مظاهر الطبيعة، امتزجت بمظاهر الواقع المرئي المحسوس، مثل تلاوة الصلاة، دمع العين، احداق اليتامى، فأخرجت هذه الصورة المؤثرة، وكذلك مزج الشاعر ما هو محسوس، كمظاهر الطبيعة والواقع العياني، بما هو ذهني، السفر كالغبار حول المجرة، أو الركض حول سراب.
ان التركيب هذا، او مزج الصور المحسوسة بالذهنية فيما بينهما تتم داخل المخيلة النشطة للشاعر، حيث تميل هذه المخيلة الى التركيب والمزج الجمالي، مع انها غير مهتمة باكتمال المنظر امام العين او في الذهن، انما الاهتمام ينصب على قدرتها الجمالية، وقوتها الادهاشية، لمفاجأة المتلقي في احداث الصدمة، أو الهزة، عند سماعها او قراءتها.
ومن هذا نجد الصورة الشعرية عند عمار كامل تمتاز بقوتها، وتركيبها اللغوي والتشكيلي حيث اللغوي سينتج التشكيلي، وتمزج بين عالمين احدهما واقعي والاخر تخيلي.
يقول في قصيدة "خيالٌ في الهجيرْ":
* "سقط النقابُ فأبصرتْ
بعد الظلامْ
وتمدد الصُبحُ المسجرِ كاللظى
وجلٌ تهيأ للنشور
فكأنه شُباكُ من سقرٍ
تثائب في الضحى
فأذاب أكوام الحجارة والحديد
فتزاحم الأحياءُ بحثاً عن خلاص
فروا فِرارَ الشات من وكْرِ الذِئابِ إلى الظلالْ
ولِهاثِ إسفلتِ الطريق تصاعدتْ
كالأبحرةْ
لتقيَء أحشاء الجحيمِ على الحُطامْ".
هكذا ينقل الشاعر تفاصيل واقعية بصور تجمع بين المحسوس والذهني من خلال مخياله النشط، فيأتي تركيب الصورة اللغوي والتشكيلي قويا وشفافاً وفق منطق الغرابة، فيأخذ بتلابيب الدهشة الممزوجة بالمفاجأة، تلك الدهشة التي تمزج بين الواقع والمتخيل، واللغوي والتشكيلي.
ان ما يميز صور عمار الشعرية هي اللغة المنتقاة من قاموس شعري خاص به، اختاره الشاعر ليعري به الواقع المر، وفي هذا القاموس مفردات شعرية لم يخرج الشاعر عنها في التداول الشعري، من مثل : القاتل، الموت، الدم، الرماد، المجهول، الخوف، الضياع،الهروب، اليأس، انه قاموس موحش ومظلم، وغير انساني، لما رآه الشاعر في واقعه من امور غير انسانية تحدث في المجتمع العراقي الذي هو واحد منه.
في المجموعة الشعرية "قاتل معلن" نستنشق عبير النسق السيابي في الشعر، ولا اقول التأثر بنهج السياب، وقد جاء ذلك من خلال الاوزان التي تحمل ايقاعا هادئا،حزينا،موحشا، ومن خلال موضوعاتها التي تتصف بالموت واليأس، والقتل، والخوف، ومن خلال الوحشة التي نستشفها من بعض القصائد، كما في قصيدته " قاتل معلن " :
* "وصغارك الغرثى بقايا من جراحٍ
حين ينكأها الظلامْ
ويحيلها وجع الرغيف الى حطامْ
هي بعض جلدٍ ناحلٍ
لا ترتديه سوى العظامْ
لحدٌ على لحدٍ وتزدحم النذورْ
وتفور...
كالبركان من وجع تفور
والنار تلهبها الدماء على الطريقِ
وفي الصدور".
"قاتل معلن" الصادرة في هذا العام تضم عشرين قصيدة تعلن للملأ اسم القاتل من خلال اثره في الانسان والمجتمع، فكانت مجموعة شعرية اثبتت ان قصيدة التفعيلة ما زالت بخير، وهي على الطريق الصحيح.