ادب وفن

أدونيس.. والشعر العامي العربي / ريسان الخزعلي

( 1 )
*.. لم يلتفت الشعراء العرب المحدّثون الى ظاهرة الشعر العامي العربي، هذا الشعر الذي أخذ مساحة واسعة من الانتشار والتلقي في عموم البلدان العربية، وأعني هنا بالشعر العامي، الشعر الحديث منه الذي لفحته ريح التجديد بعد تجربة /السياب، نازك الملائكة، البياتي، بلند الحيدري/ التجديدية، والتجارب اللاحقة لها، وكتب فيه شعراء مثقفون مجددون يقفون بالتوازي مع شعراء الفصحى ، ثقافة وإطلاعاً وفكراً واهتماماً بالتحولات الشعرية العالمية.
إن الشعر العامي بصورة عامة، كان ولا يزال المادة الأساسية في شعر الأغنية، اضافة الى ان العامية العربية قد دخلت بقوة في الكتابة المسرحية والسينمائية وحوار الرواية، ناهيك عن أنها لغة التداول اليومي، لما تمتلكه من حرارة وحركة اشتباك مع اعصاب الناس. والشعر بالعامية لا يقتصر في نشأته وتوليده وتداوله على الوطن العربي، وإنما هو ظاهرة عالمية بحدودها الفنية، تضيق وتتسع حسب معطيات ثقافية/ اجتماعية/ سياسية.
( 2 )
*.. صحيح، ان بعض الشعراء المحدّثين كانت لهم بدايات في كتابة الشعر العامي، تراجعوا عنها بسرعة، وابقوا على تضمينات واستعارات محدودة من الشعر العامي، تظهر هنا وهناك في بعض قصائدهم، الا أنهم لم يلتفتوا الى التجديد الذي حصل فيه، على مستوى البناء والصور الشعرية والموضوعات الجديدة، وفكرة الشعر اساساً، ولم تظهر لهم آراء واضحة تتناسب مع تحولاته وأهميته وحضوره بين الأوساط الثقافية والعامة، وابقوا على الأعجاب به همساً. ان موقفاً كهذا من الشعر العامي العربي، لا يبرره أي موقف فني/ نقدي..، وإنما يجيء لترفعات واهية متعالية، لا تنصت بعمق الى حقيقة، ان الشعر لا تكرسه اللغة فنياً حتى وإن كانت رديئة، وانما تكرسه طبيعة الاستخدام الفني لهذه اللغة، بما في ذلك اللهجة. واللهجة عموماً لا تنبثق من الهواء، وانما هي بقايا لغة ما، سائدة في زمن ما وقد تحيد اللهجة عن اللغة نتيجة صعوبات النحو والصرف والقاموسية المحنطة، إلا انها تبقي على جذور ما، يوصل بعض النسغ الى الأوراق. والملاحظ ان الشعراء المحدّثين (وهذا المستغرب) لا ينفكون من الاشارة الى والاشادة بتجارب عالمية معروفة كتبت بالعامية، الا ان الأمر مع العامية العربية، معكوس تماماً، متناسين ان بعض شعراء العامية المجدين يتداخلون باللونين (الفصيح والعامي) على السواء.
( 3 )
*.. /أدونيس/ في إشارة لافتة، يخرج عن موقف الشعراء المحدّثين، ويبدي رأياً في الشعر العامي العربي، ولا يتردد من توثيقه في ادبياته، وان كان على مستوى الاشارة، الا ان هذا الرأي يشير الى إنصات شعري يُعتد به.
وفي موقف آخر لم يتردد /أدونيس/ في نشر شعر الشاعر (سعيد عقل) بالعامية في مجلته (مواقف)..، كما انه تفاعل الى حد ما مع طروحات الشاعر (يوسف الخال) في دعوته الى الكتابة بالعامية.
يقول /أدونيس/ عن الشعر العامي العربي في كتابه (مقدمة للشعر العربي – دار العودة 1973) ما يلي:
ولا أتحدث عن الشعر العربي باللغة الدارجة، فهو ما زال ظاهرة، ولكنها عميقة الأصول وإن تكن نادرة الفروع. واذا كنت لا أعرف أن أتكلم عن هذا الشعر في مصر والعراق فانه في لبنان يقترن في نتاج ميشال طراد بهيام يجعل من لبنان وأشيائه أثيراً سماوياً، ويقترن في انتاج الأخوين رحباني وصوت فيروز الهيام الآخر الذي يصيّر الوجود صوتاً وأغنية. هذا الشعر الأثير عند ميشال طراد بداية مفردة لا ثاني لها، وهذا الشعر – الغناء عند الأخوين رحباني هو في رأيي أهم حدث شعري – صوتي في زمننا الحاضر. (إنتهى قول أدونيس).
*.. الا يصح ان يكون هذا الرأي/ الاشارة في عداد التحول الفني، ضمن تحولات أدونيس الشاغلة؟ وماذا كان بوسعة أن يقول؟ لو عرف هذا الشعر بنماذجه المتقدمة في العراق، كما عرف شعره بالفصحى؟
( 4 )
*.. في الخلاصة :
1- ظاهرة الشعر العامي، ظاهرة عميقة الأصول، وان تكن نادرة الفروع. وأدونيس حين يجد العمق، فلأنه ريفي المولد والنشأة (قرية قصابين السورية)، وقد وجد ما أشاره الى هذا العمق في أدب أهل القرية: حكاياتهم، أغانيهم، أحاديثهم، عزاءاتهم، أفراحهم، فولكلوريتهم..الخ، وكلها تشير الى أصل ما. وان ندرة الفروع تعود الى إهتمام أدونيس الأساس بشعر الفصحى دون غيره، وقد حال هذا الاهتمام من تأصيل الأصول وصولاً الى الفروع، إضافة الى إنغماره في البحث الفكري والترجمة والدراسة الجامعية بمراحلها الاولى والعليا، بعيداً عن التراث الشعبي، كما ان الظاهرة بالأساس، قديماً وحديثاً لم تحظ بتنظير، لا من شعرائها، ولا من متابعيها، يُظهر الاسرار الأبداعية والفنية والجمالية فيها، ويضاف الى ذلك، قلة المطبوع منها.
2- إن توصيفات مثل (الهيام، الأثير السماوي، الوجود صوتاً وأغنية، بداية مفردة لا ثاني لها، أهم حدث شعري – صوتي في زمننا الحاضر) تنم عن دراية العارف بالشعرية العامية اللبنانية، وتنم ايضاً عن تحسس عالٍ للقيم الابداعية التي توافر عليها الشعر العامي اللبناني، حتى وان حصر النمط، دون ان يجعل اللغة حاجزاً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
*.. إن /ادونيس/ في اشارته هذه، قد أضفى عمقاً آخر على تجربته، وبرهن إستطالات مجساته التي تصل الى كل ما يصيّر الوجود شعراً وحياةً وابداعاً، وكل ما يجعل من هذه التجربة، أن تكون شاغلة.