ادب وفن

«حذام».. رثاء القديسة / سالم محسن

يطرح الشاعر عبد الكريم كاصد في مجموعته الشعرية المعنونة "حذام" الموضوع التراجيدي من جهة متسامية تدفع الموت إلى حياة جديدة، وهذا يضيف إلى القصيدة الحديثة العراقية والعربية وشيجة تبلغ الذروة في إنتاج قصيدة عالمية تواصل القديم بالجديد معاً، وبامتلاك الشاعر ثراءً ثقافياً عربياً وأجنبياً تحّول هذا الموضوع إلى إشارات حية من خلال بصمة الشخص "الكائن" باستخدام لغة بين المنولوج والمناجاة اللذين يجريان بتوازن مع مفردات قاموس يتحرك في الواقع الصادم والخيال المتلقي ما يجعل القارئ في متعة تشوف وإنصات.
بلاغة الشكل
تتعدى بنية القصيدة الشكل المتعارف عليه، إذا اتفقنا على أن البنية الشعرية السائدة ظلت في إطار البنية التوليدية منذ الجهود الأولى على يد رواد شعر التفعيلة إلا في مرحلة الحداثة والتجديد وظهور قصيدة النثر كشكل جمالي جاذب.
عند "حذام" يضع الشاعر حواسه على الشفير في بلاغة شكل تقوم على تقطيع كلية البنية التوليدية إلى قصائد قصيرة في خاصية تفرد، هي الحفاظ على جَمع الجزئي من ذلك الزمان إلى هذا المكان وصولاً إلى الكلي الواقع بين دفتي الديوان، ومَثَلنا في هذا، هو العلاقة ما بين هاتين القصيدتين وهما: "خاتمة والراحلة".
خاتمة
وفتِ الأمّ بالوعد
وابتسمتْ وردتي في السرير
وجاء الملاكُ إليّ
ليفتحَ صدري
ويُخرجَ قلبي
فلا تلمسيهِ
وهزّيهِ
هزّيهِ
- قلبي الذي عاد –
حتّى ينامْ..
الراحلة
" في الثامن من آذار
قالتْ : "باركني
أوقدْ لي شمعة فرح ٍ بيضاء!"
وذهبتْ الى النوم
بصحبة شمعتين
لكي تراني
من رآها وهي ترتدي السواد في النهار ؟
لقد رحلتْ
وأطبقتْ أهدابها على وردةٍ للرحيل
عادتْ ورقةً أفتحها كلّ يوم
ودموعاً لا أراها من سنتين
وها أنا في السنة الرابعة أبكي "
نجد أنّ القصيدتين قد امتزجتا في مونتاج شعريّ واحد، رغم التباعد الحاصل بينهما من ناحية موقعهما من الديوان، بالإضافة إلى حضور ذات الشاعر الواضحة من خلال حواس الكائن "الإنسان" عبر تمشهد الصور إلى ومضات "التشظي المنضبط" وليس كصور فوتوغرافية أو على هيئة بورتريه كالذي يحصل لدى شعراء آخرين، وان مدعاة هذا الاستخدام هو التلاؤم مع تراكيب الشعر الجديدة وخصائصه التي تجعل مخيال القارئ مُشاركاً ومُنتجاً في آن واحد،هذا يعني أنّ المعالجة الشكلية جاءت مثل جسر رابط مابين مرحلتين زمنيتين وهما التفعيلة وقصيدة النثر بمضامينهما وعلاقتهما الجمالية المباشرة مع الكائن في أصعب الظروف التي تمثل هنا حالة فقد الزوجة.
شذرات التقديس
في لحظة ما تتصير الأحاسيس والمشاعر إلى صيرورة أخرى بسبب هذا الفقد، ثم تتعاظم الأشياء المفقودة في انتقالها من الحيز الذاتي، الشخصي، الواقعي، إلى حيز آخر مجاور لكنه غير ملموس، وهو محسوس وخياليّ، وأن هذا الاصطراع قد أوجدته الحسرة واللوعة والتوسل، لكن واحدة من هذه الطرق قد وصلت عند حدها النهائيّ،فتكون النتيجة الحتمية لصالح الخيال المحسوس الذي يهب الكائن الملموس بعد الموت صفات تتجلى مابين زمنين، هما زمن اللقاء وزمن الافتراق في منطقة تتماس مع حاجتنا – التذكر – استعادات. إن زمن الشعر هو هذا الذي يسجل لنا أناتنا وآهاتنا،مختزلة في كلمات وصور وإيقاعات ثقيلة "وها أنا في السنة الرابعة أبكي "
في قصيدة طويلة نرى في كل سطر، أو مقطع وظيفة، مابين التمهيد لمفارقة أو إطلالة على موجودات، وإن الشاعر لم يلتزم بهذه التمهيدات لمقدرته على تعويضها بما يشغل القارئ بالصدمات المتوالية، حيث نجده يكرر علينا الحس بصدمة الفقد بجميع مفرداتها ومن جهات عديدة ، ماعاد حبي سوى حفرة، حتى انتهيت إليك وقد أطبقت دون كفّيَ بوابة الليل ..موغلةً في الظلام، أين تراني رأيتك، تبحثين عن الخيط ضاع، وعن إبرة سقطت في التراب، أنا النار المكتومة في كوكب صغير، حذام ! هل مازلت ِ؟، حملتُ الغزالة ميتةً، آه .. أظلم تحت شرفتها الطريق، أين سأضع عيني، سأكسر المرآة، أين تراني تعلقت؟
كل إشارة وعلامة تقوم بوظيفتها داخل القصيدة، إنما هي ضمن مناخ القصيدة وهي إشارة وعلامة قد أخذت مكانها كعلاقة ترتبط بعلاقات جمالية لموروث إنسانيّ في حيز الفقد دون الإيغال في السوداوية:
حذاؤك الوردي، الساحرة، الشبح، صفحة بيضاء، السدرة، أزهار القبر، نعوش، طيور، ملاك، شمعة فرح بيضاء، الطائر الأبيض، طفلا صغيرا، العشب، النجوم، مراكب مسحورة، ضوء قوارب، خطوك في الظلال يرن.. يرن ..يرن، لامعة بالكواكب، وشاح..
نهاية الدهشة
كثيرة هي قصائد الرثاء التي تناولت وفاة الزوجات، في "حذام" كان التفرد واضحاً، حيث كانت المعالجة على مستويات عدة، وهذا هو بحق من أصعب المهام، حيث قام الشاعر بتقديم هذا الموضوع كقطعة فنية أضاءت الإرث الأدبي والإنساني معاً، لما تحمله "الديوان – القصيدة" من مضامين عظيمة، و من جانب آخر، تعتبر هذه القصيدة احتفاءً بالأنثى بشكل عام والزوجة بشكل خاص، إذا ما عرفنا أنّ زوجة الشاعر قد التحقت به في المنفى بعد هروبه من ملاحقة النظام البائد له. تبقى مهيمنة الموت تمارس سلطة غير مسيطرعليها، ولن ينجينا من ذلك إلا القبول بدورة الحياة. إنّ إتباع الأثر إنما هو نوع من التقديس شئنا أم أبينا ..
"وأخيراً
تصالحتُ والموت
أزورُهُ ويزورني
وافتقدهُ أحياناً".