ادب وفن

البحث عن سيرة المكان /جاسم عاصي

العتبة
ما نعنيه بالبحث من خلال قراءة كتاب "الدكتور أسعد الأسدي، معرفة المكان" هو تقصيّ العلاقة بين الإنسان والمكان. فوجوده يمنح المكان صيرورة، وهذه بدروها تخلق معاني تُرشحه هذه العلاقة ذات التماس الوجودي، تدفع بالإنسان ضمن زمن معيّن إلى أداء دور التأمل في المكان، لأنه أساساً خلق مجموعة علائق ذاكراتية. من هذا يكون العنوان "معرفة المكان" يؤدي دور الدافع الذاتي والموّضوعي لتقصّي مثل هذه العلاقة، أي التأمل في ما هو ناتج، قصد معرفة الكينونة. فالمعرفة هنا ارتبطت بكيان مادي ومعنوي، الأمر الذي يكون ادراك موطنه، يخلق وجوداً ذا معنى، لحظة معرفة لقصدية في مثل هذه العلاقة. فالتاريخ الذي هو مدوّنة الإنسان في المكان والزمان، يمنحنا فرصة استعادة الأفعال التي أنتجت معنى المكان، وما توحي به من علاقة الزمان، فهما "الزمان والمكان" خطان يواكبان وجود الإنسان. إذ نرى أن المعرفة هنا، محاولة الاستعادة من جهة، وادراك معنى الوجود من جهة أخرى. بمعنى إن هذه المعرفة تقودنا إلى متن فلسفي، يُرشح معنى الوجود، لأننا بمثل هذه العلاقة حققنا وجوداً تتداوله الفلسفة، من حيث العلاقة بين الكينونة "الذات" والوجود. وحين نتذكر متون الكتاب، نجد أن الكاتبــ الباحث ــ شأنه في كل مرة ــ يعمل على تقصي العلاقة هذه، غير أنه في "معرفة المكان" انشغل بجانب، لا نقول أكثر حيوية، بقدر ما نؤكد ؛ أنه تداول ما أتاح له الزمن البحثي في كتبه السابقة، التي هي الأخرى حاملة نفس السؤال المراد منه المعرفة. إن تغيّر النمط، لا يعني الغاء ما سبق، بل أنه يوّسع دائرة الرؤى للمبحوث فيه، وهو المكان. إن التخصص ــ كما فعل ياسين النصير في نسج مسلسلته البحثية حوّل المكان، مما وسّع دائرة المعرفة لدية، وأحاط بمعرفة جديدة، خلقها العقل الجدلي. كذلك فعل "الأسدي" من خلال سلسلة ما أنتجه من كُتب عن المكان.
من هذا نجد أن العنوان، أو العتبة الأولى للمؤلَف، قد خلق مداراً بحثياً للتلقي. فهو عتبة مُحرِكة للبنية الذهنية للمتلقي، سواء كان متخصصاً، يبحث عن معرفة جديدة مضافة، أو متلقياً غير ذي اختصاص، تُثيره أطروحات جديدة، فيتبع خطاها. وهذا هو الأساس في أطروحات المعرفة وتداولها.
سيرة العلاقة والنتائج
ما يعمل عليه المؤلف ؛ هو المعايشة مع النتائج التي يدوّنها مع فعل الممارسة اليومية مع المكان، وتشمل هذه "العيش في المكان ، اكتشاف ما بداخله ، خلق المدارات الموجبة ، تقصّي الظواهر المترتبة جرّاء تماسك الزمان والمكان ، درجات متفاوتة من هذه الظواهر" وقد تكون غير ما ذكرنا، إذ يخلقها مناخ القراءة والتثبت من جدّية الطرح وجديده. لذا سيكون تقصّينا لما هو مُمارَس بحثياً، باتباع تقصّي السيرة، والخروج بمعارف جديدة، نجدها نوعا من استنتاجاتنا جرّاء عوامل التحفيز التي يمتلكها الباحث، أو الوقوف على بعضه باعتبارها نوعا من الخلق في البحث عن المعنى في الأشياء، والمكان واحد منها.
فمن صيغة كوّن المكان، لا يكون مأوىً لنا فحسب، لذا توّجب على الباحث أن يُساير الأثر والمؤثر، فلما كان المؤثر هو المكان، فالأثر في هذا سوف يتشعب، وتنخلق له صيرورات، لأنه أساساً ــ وحسب تعبير الكاتب ــ له أثر في مجرى حياتنا. بمعنى أن المكان حيّز متحرك، حيّز معرفي، يؤدي إلى قيام فعاليات متنوّعة، خالقاً جملة معاني. وهذا يكون وارداً ضمن طبيعة المكان الموضوعية. فهو يُرشح علاقات، من ثم ينتج ظواهر، تكون أكثر تأثير بالإنسان في التاريخ، لأنها في الأساس مغتنيه بالفعل الإنساني، على حد ذكره. لذا فدأب البحث ؛ هو تقصّي مثل هذه الأفعال التي تكون بمثابة مدوّنة الإنسان في المكان ــ كما ذكرنا ــ. أما بصدد الوهم، كقاعدة لبناء شيء، أي صرح لشيء فيه خصائص. فالوهم هنا عبارة عن تراكم كمي، يؤدي إلى تراكم نوعي. وهذا ما يخص تصوّرات المكان، وحسب رأي "الأسدي" فإن الوهم ليس قطيعة، بقدر ما هو صياغة افتراضية. وفي هذا يكون جمع الأجزاء أو التشوفات لأجزاء المكان، أو مجموع الأمكنة، بمثابة فعل تحقيق صورة المكان، الذي تستقر صورته في الذكرة، أو مستودع الاحتمال. فنحن نمارس الاحتمال، بحيث نتحرك في مجال العلاقات القائمة بين الأطراف. ولعل الوهم واحد منها. حيث نبني حقيقتنا المكانية على نوّعه. فالأشياء ومنها المكان، لا يكون حضوره وفق مسميات بديهية، أو حقيقة نظرية، بقدر ما مُشيّد وفق احتمالات، تقود إلى تصورات، من أجل الوصول إلى الحقائق. فنحن في المكان، لكن معرفته " حسب العنوان الرئيس " يتوجب له أن يسعى إلى إحداث نوع من المراوغة التداولية، لرسم معالمه. فالوهم تصوّر المكان، هو حدس غير المألوف من أجل جعله مألوفاً. فحين نقول المكان من وجود الإنسان، نعني طبيعة العلاقة بينهما. وهو ما نسميه الألفة. فالكائنات تبني وجودها من خلال الفتها، وتطوّر وجودها نابع من قدرتها على تطوير التقارب وتطويع السلوك. وهذا ما توحي به أبسط صورة للمكان، هو العُش. فبناؤه يوّلد علاقة بين اثنين، ومن هذه العلاقة الثنائية، يتوّلد عالم الكثرة للنوع. كما وأن مجموع الأوهام يساوي زيادة المعرفة، التي هي أسس كل حراك وجودي. والذي يُشكل الوهم معني بتطوير الافتراضات عن المكان، التي بدورها تقود إلى يقين يؤكد على وجوده. فالمكانية تعني وجود الإنسان في المكان، وبما يؤكد مكانية الإنسان، هو افتراض وجود الإنسان داخله كمأوى، ومن ثم خالق لمعاني جديدة، تخلقها الألفة فيه ومنه وبه. فالأمكنة افتراضات تقود إلى يقينيات. وهذا له علاقة بفلسفة المكان، التي قاد مدارها كتاب "الأسدي" في افتراض معرفة المكان، التي هي العتبة التي تؤكد وجود الإنسان في المكان. ولولاها لأصبح كل شيء عبارة عن "إيهام" لا غيّر. فـ "الأسدي" إنما يعمل على تجميع الكِسَر لتشكيل الصورة التي لا تنتهي صيرورتها. فالبحث عن المعرفة متواصل، فكيف بمعرفة المكان، الذي هو بالتالي يشكّل تاريخ الإنسان؟
أما بصدد علامات المكان، التي أشار إليها الكاتب بــ "المنارات" فهي حقيقة قارّة عن وجود المكان. بمعنى هي العلامات على تأكيد الوجود غير المتخيّل للمكان، فهو حقيقة وجود، لأنه ارتبط بالعلاقة الإنسانية. وهذا هو الشأن المهم، فعلامات الأمكنة في المدينة مثلاً، وبقعة أرض في حياة بدائية كالريف مثلاً هي إشارات على وجود إمكانية تشييد المكان ومن ثم تأثيثه. فالعلامة من هذا المنطق تقود إلى أخرى، وإذا بنا نجد أنفسنا بمواجهة علامات، أي منارات تُحقق مكانية المكان. فهو غير ضائع في السعة، إنما يلتبس وجوده بين علامات، لابد من الاستدلال إليه بفك شفرات المنارات ونحن نبحث عن المكان، بالتالي عن معرفته. فالمعرفة هنا مرتبطة بالكينونة، والكاتب لا ينفك يؤدي فعل التقصيّ والتنقيب، كالإشارة في أرض يقيناً توجد فيها لقى وشواهد. لذا توّجب البحث بمنتهى الدقة. هكذا يتصوّر الأسدي عملية الإمساك بالمنارات التي تقود إلى معرفة المكان. وــ حسب ما ذكر ــ فإن البحث هذا ينقذ المدينة من الغموض ويخلص سكانها من التيه. كذلك "ونحن إذ نقصد مكاناً ما، لا نكتفي عادة بالرغبة في بلوغه وحسب، بل نبحث عن منارة تدلّنا إليه". فنحن في المكان اسرى منارات متوالية، تُشكل دالات إليه كمأوى وكعلاقات دائمة ومُوّلدة. فلكي تكون على بيّنة بالمكان، تقود إلى تحاور دائم مع علامته، عليك أن تمارس أفعال التعالق والدلالة والتحاور. المكان لا يقود إلى السكون، إنما يقود إلى المعرفة المتواصلة عبر التحاور مع أجزائه ومكملاته، التي يتبناها الإنسان داخل المكان. وكما هي حقيقة جلية ؛ أن حيوية المكان من حيوية الإنسان، والعكس صحيح، وهذا صوّت واضح لتأسيس حياة مكانية، سواء في الوجود أم في النص ذي العلاقة العميقة مع المكان، لأنه ــ أي النص ــ يدوّن سيرته في المكان، ويؤكد حيويته المُغيّرة للبُعد الإنساني داخله. من هذا فنحن نحمل صورة المكان في ذاكرتنا وإن اختفت معالمه. فالمكان ذي صلة بالتاريخ، التاريخ يربط صيرورته بالمدوّنة الشفاهية للإنسان، عبر الذاكرة الفردية والجمعية. فالأمكنة بمجموع سماتها المختزنة في الذاكرة، والتي تقود إلى المكان المندثر أو المُزاح، هو علاماته المتبقية في الذاكرة. لذا لا يمكن تغييب المكان، من خلال محو أثره، فثمة علامات تقود إلى وجوده في الذاكرة. ولعل فن الفوتوغراف يعمل على استعادة حيوية المكان.