ادب وفن

العمارة نص بصري .. قراءة في منهج خالد السلطاني / معتز عناد غزوان

لاشك أن المتتبع للحركة المعمارية العراقية بشكل خاص والعالمية بشكل عام لا سيما عمارة الحداثة، لابد لكي يحصل على معلوماتها وأساليبها وخصائصها من ان يعود إلى كتب المعماري الدكتور خالد السلطاني. هذا المفكر والمنظر والمؤرخ للعمارة التي عشقها وتخصص فيها ودرسها في جامعات العراق والأردن والسودان، لينتهي في كوبنهاغن مستشاراً للعمارة في مدرستها العريقة هناك.
لقد عرف عن الدكتور خالد السلطاني شغفه العميق بخصوصية وطنه وهويته التي ارتبط بجذورها الحضارية والإنسانية، حتى أصبح احد أهم الرواد الذين وثقوا العمارة العراقية التي بدأت بوادرها منذ بدايات القرن الماضي حتى تشكلت أولى نماذج عمارة الحداثة على يد روادها الكبار، ومنهم محمد مكية وجعفر علاوي ورفعت الجادرجي وقحطان المدفعي وقحطان عوني وعبد الله إحسان كامل وهشام منير ومعاذ الالوسي وغيرهم وصولاً إلى الراحلة الكبيرة زها حديد.
ومن آراء السلطاني المهمة حول بدايات تأسيس العمارة العراقية ومرحلة الحداثة، استنتاج مهم يقول فيه: ((إن هناك قطيعة حازمة، تفصل بين مرحلة الحداثة وما قبلها، هي في الحقيقة ادعاء لم يثبته المسار التطوري للعمارة في بغداد، وما حدث كما نراه، هو استمرار لتلك التقاليد البنائية النفعية والفطنة، سواء المتعلقة في صميم أساليب التكوين الفني للبيت السكني البغدادي أم في تصاميم الأبنية العامة فيها، كما لا ينبغي أن ننسى طبيعة الأعمال الحرفية البنائية والمهارة، المتوارثة عن أجيال عديدة، المتسمة بالبراعة وحسن توظيف المادة الإنشائية، المحلية الشائعة وهي الطابوق)).
درس الدكتور خالد السلطاني في العديد من بحوثه العلاقة المتبادلة بين المناخ والعمارة، لا سيما في العراق الذي يتميز بصيفه الحار جداً. إذ يشير إلى تلك العلاقة قائلاً: ((يغدو المناخ البغدادي والمختزل بشمسه الساطعة المفرطة في حرارة أشعتها، في أيدي المعمار عاملاً أساسياً في تقصي أساليب تصميمية تقلل من تأثيرات المناخ السلبية، وتعمل على جعل تلك الأساليب تؤسس لمنظومة جماليات واجهات المباني، وبمعنى آخر استثمار المصمم أنواع الحمايات وتنوع الشاشات المستخدمة في المباني والانزياحات الكتلوية وإبراز العوارض الإنشائية والتلاعب الماهر في الظل والضوء)). وهذا ما ركز عليه حتى في مشاريعه المنفذة لاسيما في مبنى محطة كهرباء الناصرية عام 1979، إذ استخدم الدكتور السلطاني معالجات بنائية ترتبط بتحولات المناخ وعلاقته بالمبنى الذي صممه آنذاك.
كما تعرض إلى تجربة المعمار رفعت الجادرجي في عمارته وعلاقتها بالمناخ والتي تميزت بالدقة والتعامل بمنطقية مع تلك الظواهر المناخية لاسيما في العراق.
كتب الدكتور خالد السلطاني دراسات جمة عن تاريخ العمارة الإسلامية وتحولاتها الشكلية والوظيفية ومنها دراسته القيمة للعمارة في العصر الأموي وكتابه "رؤى معمارية" الذي درس فيه العمارة الإسلامية وعمارة بغداد منذ ثلاثينيات القرن الماضي. وبفضل الدكتور خالد السلطاني ودراساته المعمقة لأهم منجزات المعماريين العراقيين بشكل خاص والعالميين بشكل عام، والتي اصبحث بعدئذ القاعدة المعرفية والعلمية لدارسي فن العمارة العالمية لا سيما العراقية منها، كان لكتابيه القيمين (محمد مكية 100عام من العمارة والحياة) وكتابه (رفعت الجادرجي معمار) أثرهما الكبير في جمع وتوثيق المنجزات الإبداعية لهذين المعماريين الكبيرين.
ومن الجدير بالذكر أن الدكتور السلطاني استطاع أن يحلل العمارة اليوم بلغة عالية وعلى وفق المفاهيم المعاصرة التي وظفها بتنظيرات رصينة تعتمد جرأة في استخدام المصطلح المعاصر الذي ينحى منحى اللغة والنقد كالتناص والإيجاز والبلاغة والتأويل التي كانت واضحة في طروحاته ودراساته القيمة بوصف العمارة نصاً بصرياً مؤثراً. يقول: ((لا يوجد نص نقي أو أحادي مغلق على نفسه، كما ليس هناك ملكية للنص، أو أبوة نصية، مثلما أشار رولان بارت، لان الكتاب والمبدعين يعيدون ما قاله السابقون بصيغ مختلفة فالنص الإبداعي يدخل في شجرة نسب عريقة وممتدة فهو لا يأتي من فراغ ولا يفضي إلى فراغ).
ولا بد من الإشارة إلى اصالة هذا الرجل وحبه للعمارة العراقية وروادها وقد كان المبادر دائما إلى الاحتفاء بتلك الرموز المهمة للعمارة العراقية لاسيما جهده الشخصي الكبير في إقامة مئوية محمد مكية في بغداد كتظاهرة واسعة حضرها جمع من المعماريين والمثقفين العراقيين ايام حياة الراحل مكية والتي أضافت إليه سعادة كبيرة آنذاك.