ادب وفن

"الأخلاق في عصر الحداثة السائلة".. قراءة مجاورة / مقداد مسعود

أهم ما في مقدمة هذا الكتاب أن المترجمين: سعد البازعي وبثينة الإبراهيم يخبران القارئ حول منزلة مؤلفه المفكر البولندي زيغمونت باومان. وزمن كتابة هذا الكتاب هو العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وبشهادة المترجمين حول أطروحات باومان فهي "بقدر ما تساعدنا على فهم عالمنا المعاصر فإنها تحرضنا على زيادة التفكير في متغيراته ومآلاته بحيث لا نتعامل معها على طريقة القص واللصق وإنما التنبه والاكتشاف والتحليل على النحو الذي يؤدي إلى فهم أفضل بعمقه واتساعه ودقته. ربما حسب هذا التعامل سنتخلص من الدوكماتزم – الجمود العقائدي – في التطبيق. لذا آثرت ُ كقارئ نوعي أن تكون قراءتي لهذا الكتاب الضروري بالتجاور وليس بالتعقيب أو الانطباع السريع. فهو من الكتب التي تنتج الأسئلة الشهية للمعرفة. كما أعادتني أطروحات باومان إلى الحداثة وما بعدها لدى الفيلسوف ريتشارد ورتي. فكلاهما يشتغلان على مزيج من الأدب والفنون. وكلاهما يتناول الفلسفة بخطاب لا فلسفي. ومشوّق جدا.. وباومان من خلال كتابه يقتسم دعوة روتي في "فلسفة تدعو إلى تجاوز الحدود المعرفية المصطنعة والتي وضعت باسم العلموية أو باسم الموضوعية أو باسم الصرامة المنهجية".. وكلاهما يدعو إلى تفهم الآخر: فضمن "يوتوبيا روتي: إدماج الآخر وحقوق الأجنبي". وباومان يتناول الموضوعة ذاتها متنقلاً من ظاهراتية هوسرل إلى أطروحات تلميذه ليفيناس حول الآخر والغيرية. إلخ. وريتشارد روتي يأخذ بمفاهيم الفيلسوف جان فرانسوا ليوتار ويعتبر كل من نيتشة وهيدجر أصدقاء يستعين بهم في مشروعه النقدي. لكنه يخشى على لغته ومفاهيمه من هؤلاء الثلاثة لذا "يحتفظ بهم في البيت – ما بعد الفلسفة – مطارحات روتينية – د. محمد جديدي".. ولكنه متمسك حداثويا بأطروحات هابرماس الكونية، في حين علاقته بما بعد الحداثة بجان فرانسوا ليوتار.
للكتاب عنوان عربي "الأخلاق في عصر الحداثة السائلة".. شخصيا أراه عنوانا صادما وجديدا وجميلا، فالعنوان هو "ثريا النص" كما أعلنها المطوّب ثلاثا أستاذنا الأديب محمود عبد الوهاب. فالعنوان الذي وضعه المفكر بولمان لكتابه هو "هل للأخلاق فرصة في عالم استهلاكي"؟ هذا العنوان لا يجذب القارئ النوعي العربي؟! وهو أقرب إلى العنوان الذرائعي للكتاب. وصياغته كسؤال، يعني أن الكتاب كله بمثابة إجابات متنوعة على هذا السؤال الميداني الذي يشتغل على اتصالية التضاد بين القيم الإجتماعية: الأخلاق. والسوق المشروطة بالعرض والطلب. وبين قوس الأخلاق وقوس الاستهلاك، علينا البحث عن موضع ينبجس منه ذلك الحيز الذي اسمه: فرصة. نعم عنوان الكتاب بصيغ سؤال رئيس: يحتوي في نسيجه ِ منظومة أسئلة ستجيب عليها صفحات الكتاب، فالمفكر باومان لا يقترح حلولا تنقذنا من متاهة عالمنا الذي استحال "إلى حكايات منفصلة"، فهو حسب ما يخبرنا "أتساءل عن الكيفية التي يحتمل أن تتشكل بها تلك المتاهات. وأية أسئلة نحتاج إلى طرحها إن كنا سنكتشفها". والأسئلة التي نحتاجها هي بدورها في عوز مناعي! أعني انها تحتاج "شبكة مفاهيم" جديدة وبشهادة باومان "العديد من المفاهيم والكلمات التي قصد منها التعبير عما نعنيه لأنفسنا وللآخرين تثبت الآن أنها غير مناسبة لذلك الغرض". وهذه الشبكة الجديدة ضرورة لا فكاك منها فقد "تفتّتت مركزية المركز، والروابط بين المدارات المتصلة ببعضها انقطعت، ربما إلى الأبد. هنا ستكون المفهومات السابقة: مصدات كونكريتية أمام استيعاب المتغيرات المتسارعة: تفتيت المركز أدى إلى تأثيل مراكز متنوعة، اختلفت تنضيدات السلالم الهرمية والأولويات والثانويات. .وهكذا حل مفهوم "الشبكة" وتراجعات مفهومات: أنظمة – بنى – مجتمعات – تجمعات إلخ. وفي هذا الصدد أيضا يرى المفكر المصري سمير أمين "لكل مصطلح تاريخه. ومن المهم معرفة هذا التاريخ لإدراك مضمونه المحدد بالمرجعية النظرية للمؤلف، وكذلك بالظروف التي أحاطت اختراعه ولعل هذه الظروف تتغير فيفقد المصطلح صلاحيته".
(*)
عنوان باومان "هل للأخلاق فرصة في عالم استهلاكي"؟ بمثابة صوت الأخلاق وهي تستغيث من قسوة الاستهلاك، التي اصبحت تهددها بالانقراض الوشيك كما حدث في القرن التاسع عشر حيث أصبح "البناء الاجتماعي مهددا بالتقدم العلمي وبنتائج الثورة الصناعية فسادت روح المنافسة الروح التنافسية حياة الناس، دلتاي وفلسفة الحياة" ومثلما صاغ باومان صرخته الفلسفية عنوانا لكتابه: هل للأخلاق فرصة في عالم استهلاكي. فقد صرخ الفيلسوفان رسكن وموريس "كيف يمكن للحياة أن تستحق العيش في العالم الجديد للعلم والآلة؟
الفيلسوف دلتاي لم يكتف بالمساءلة بل صاغ مفتاحا شاملا أسمه "الفهم" فهو يرى "المشكلة الحيوية هي مشكلة الفهم أو معرفة العالم البشري أو معرفة الحقيقة التاريخية الاجتماعية" فاشتغل على الذات العارفة وهو المنجز الفلسفي المؤثل من ديكارت وصولا إلى عمانوئيل كانت، لكنه تجنب التفكير المحض وتعرّف إلى العالم وبشهادته "بواسطة مشاعرنا وعن طريق انطباعاتنا الحسية وعن طريق التفكير" فالموضوع الرئيس لدى دلتاي هو الموجود الكلي المحاط بظروف اجتماعية وتاريخية". وهنا سنتوصل إلى المشترك الاتصالي بين باومان ولفيناس وروتي ودلتاي، لأن دلتاي "لا يدرك موضوعات فحسب، بل يعرفها ويقيمها عن طريق مفاهيم أيضا". إذن المشترك هو صياغة مفاهيم تنضد المعرفيات بالشكل المطلوب، فالفيلسوف دلتاي يرى أن هدف الابستمولوجيا يشكل "البحث في طبيعة وأساس الفهم جزءا كبيرا من المبحث" والتقارب بين دلتاي وباومان يتضح من قول دلتاي التالي "الحياة هي الواقعة الأساسية التي يجب أن تكون نقطة البداية الفلسفية".
(*)
سنعرف ان باومان يتخلى عن تلك المفهومة المستهلكة: الحداثة وما بعد الحداثة، ويجترح مفهوميّ الحداثة الصلبة، الحداثة السائلة. وهذا التوصيف سوف "يستدعي الكثير من المراجعة لما تواضع عليه الباحثون والمثقفون العرب المتابعون لتلكما القضيتين الكبريتين في عصرنا الذي هو بالفعل عصر الحداثة السائلة مثلما أنه عالمها. وهذا التخلي يعلنه أيضا الفيلسوف آلان تورين في كتابه "نقد الحداثة" فهو يرى في ظل علم الاجتماع الجديد من الضروري تجاوز ذلك التضاد بين ماكس فيبر وكارل ماركس، فهذا التضاد كان بتوقيت تلك المرحلة الصناعية آنذاك لذا فإن تلك المفاهيم انهارت من جراء علم الاجتماع الجديد.
(*)
مع السطر الأول من الكتاب يزجني المفكر كرها في حرب فكرية أنا القارئ الذي داسته حروب مدبلجة للهجتنا العراقية ومصنّعة هذه الدبلجة هناك لتبث هنا: لنا، علينا! فالمفكر باومان يعلن "هذا الكتاب تقرير من أرض المعركة – الأرض التي نناضل عليها من أجل العثور على الطرق الجديدة والمناسبة من التفكير في، وحول، ومن أجل العالم الذي نعيش فيه ومن أجل حيواتنا في هذا العالم". بخصوص مفهومه للهويات فهو مشروط بقيمتين مركزيتين: هما الحرية، الأمن وتكمن الصعوبة في التوفيق ، التوافق بينهما، أحيانا تأتي الحرية عارية من الأمن أو يأتي الأمن مقيدا للحرية! ولا حل لدى باومان سوى حركية البندول "يمكننا أن نسير في حركة تشبه حركة بندول الساعة: أولا وباندفاع وحماسة نحو أحدى القيمتين وبعد ذلك نميل بعيدا عنها باتجاه الأخرى وبسبب حاجة المواطن إلى الأمن سيقوم شخصيا بثلم أطراف حرياته ليكون محصنا ضد التهديدات والتفجيرات والخطف والسلب والنهب وهنا "يتشكل الرابط بين السلطة السياسية المعاصرة والأفراد، مواطنيهم ويُطالب بالتفاهم المتبادل والإجراءات المنسقة".
شخصيا لا أمتلك هذه المخيلة الأخلاقية البندولية التي يقترحها باومان وهذا التوافق رمادي كتنظير فالكفتان: الحرية والأمن: لا تنسبنا إلى الأواني المستطرقة، كما أن الهوية هي أكثر الأشياء عرضة لصعوبة التحديد وأكثر الأشياء تشظية. إذا كانت الهوية عينا ترى الكائنات والأشياء فكيف للعين أن ترى عينها؟ هنا هل ستتحول الهوية إلى مرآة تبصر العين من خلالها عينها، وهنا على العين أن تتجنب المرايا المقعرة والمحدبة. لكن في المرايا المستوية هل سوف ترى العين عينها فقط ؟ أم الوجه كله والجسد. وربما الأجساد والأشياء. وهكذا سيكون في حيازة العين: هوية عينها و حزمة من الهويات الأخرى لسواها. وهل الهوية مشترطة بدون قيد مع الذاكرة الجمعية أليس علينا تجفيف الهوية من منابع الخلايا النائمة في ماضينا؟ حتى لا تجيش الجيوش وتفخخ شوارعنا باسم الشيعة والسنة في ع راقنا أو تسبى الإيزيديات وتهدد العوائل لأنها مسيحية! يشترط بولمان "إن نجاح أو فشل معركة يعتمد على السعي إلى الإبقاء على الذاكرة حية".
ثم يستدرك "الذاكرة نعمة مخلوطة". في مجتمعنا الإسلامي ذاكرة إثنية فهي حية وقابلة للتفخيخ على الهوية بتوقيت دول الجوار. وسيتسابق الطرفان على تنفيذ النصيحة الدمائية "أن تريق الدماء مقابل إراقة الدماء".
(*)
لا يكفي أن نكون مع سوانا بل من الضروري أن نكون من أجل سوانا والفرق بين "مع" و"من أجل" هو الفرق بين فيلسوفين "هيدجر" و"لفيناس".. والسؤال هنا: كيفية القبض على سجايا السلوك البري الذي لم تلوثه "المنتجات الاجتماعية المعاد تدويرها"؟! لكنني سأجد كل دفء المعية في "من أجل" والدفء يتجسد بتكريس ذاتي أنا، لغيرية الآخر والتي "لا يمكن إنقاصها والتي توقظ الذات لترى مسؤولياتها الفريدة". وهكذا نكون أنا وآخري – بشهادة ليفناس – في حفلة أخلاقية لشخصين. "نصل أنا والآخر بدون أغطيتنا الاجتماعية مجردين من المكانة، والمميزات الاجتماعية، ومن هوياتنا أو أدوارنا المصطنعة أو المفروضة اجتماعيا". لكن هذه الحفلة الأخلاقية حصريا لاثنين فقط. فالثالث سيكون طنين ذباب. ولفيناس حتى في هذه الحفلة الأخلاقية يجري تمايزا كالتالي "المسؤولية شأني أنا. التبادلية شأنه هو".
والسؤال التالي هو: لماذا العقول الكبرى المفكرة بمصائر البشرية اتفقت على القيد الرئيس، أعني ضرورة تحشية القواعد المعيارية الضرورية
بالقسر الاجتماعي؟ هل بهذه الطريقة فقط يمكن تخليص البشرية من "حرب الكل ضد الكل".. وها هي الحرب الكلية تجدد شبابها فينا وهي مستقوية بقمع الحكومات لشعوبها وبالتشدد الأصولي للمتأسلمين وما تضخه دول الاقتصاد الريعي لداعش وأخواتها. .وأمركة الحكومات الإسلامية برعاية آخر الصحابة ترامب وهنا أقترض من باومان وأشهد أن "العالم اليوم يتآمر ضد الثقة". فما الفائدة من ثقة تتدفق بوصفها التمظهر الأكبر للحياة "ولكن ما إن تنطلق حتى تبحث من دون جدوى عن مكان تتمسك به".
(*)
بخصوص تحويل كرتنا الأرضية إلى قرية إلكترونية: علينا أن نتوقف عند هذه الفقاعة فالعولمة تتقدم بجهوية واحدة فقط "تجريد الدول من القوة وغياب أي بديل مؤثر". فالشبكة التي نشرتها العولمة لا تختلف عن شبكة الصيد! فهي غير معنية بثقافة عالمية أو نظام اجتماعي عالمي يحتوي "كليات تنّسق أو توائم أو تكيف كل وجوه الوجود الإنساني – وبشكل خاص الآليات الاقتصادية والقوة السياسية والأنماط السياسية". إيتالو كالفينو الذي ادهشنا بسردياته المتمردة على الأنساق النمطية في التروية سيقولها في "مدن لا مرئية" وتحديدا في مفصل مدن ورغبة "الجحيم هي موجود مسبقا هنا، الجحيم التي نعيش كل يوم، التي نشكلها بكوننا معا".