ادب وفن

قراءات سردية لواقع مأزوم / د. فيصل عبد الوهاب

تتميز مجموعة "قصص الخميس" للقاص فرج ياسين بنقدها الحاد للظواهر الاجتماعية والسياسية التي تسود العراق في السنتين الماضيتين بوجه خاص، وبشكل يتماشى مع حدة ومرارة الأحداث التي مرت.
وقد تراوحت طريقة تناول الأحداث بين أسلوبين: الأسلوب المباشر الذي يشي ببعد رمزي أحيانا وفي أحيان أخرى يقترب من لغة الخبر العادي، والأسلوب الرمزي الذي يتبع تقنيات متعددة منها التناول الأسطوري الذي يعرف به الكاتب أو السرد على ألسنة الحيوانات أو ما يسمى بالقصة الخرافيةFable story ، أو الأنسنة "التشخيص ."personification.
في الجانب السياسي يتخذ الكاتب من الجمهورية المفترضة "كبريا" أنموذجا للحكم الدكتاتوري المطلق مثلما توحي التسمية للكبرياء والعظمة المزيفة. ومثلما ينتقد الكاتب هذا النوع من الحكم فإنه ينتقد نقيضه أيضا وهو الحكم الديمقراطي وبلغة أقرب ما تكون إلى لغة الشتائم دون أن يبين سلبياته مثلما بيّنها عندما تناول سلبيات الحكم الدكتاتوري.
وعندما يتخلى الكاتب عن أسلوبه المباشر تصبح لغته شفافة عذبة موحية وخاصة في قصته "رسالة" حيث تجري أحداثها أثناء فترة النزوح التي أجبرت الكاتب أو راوي القصة على ترك بيته ومدينته إلى مكان آمن بعد أن استولى عليها الارهابيون.
تزدحم القصة بالرموز التي توحي بالفكرة التي يريد إيصالها إلى القارئ منها عنوان القصة رسالة والبيت والقنفذ والريح والقطة الجائعة. ويستخدم بذلك تقنية الأنسنة "personification" حيث يجعل الورقة المكتوب عليها الرسالة تروي قصتها بعد أن غادر الساكنون بيتهم دون أن يطلعنا على فحوى الرسالة.
ولكن يمكننا بالطبع أن نستنتج مضمون الرسالة من الرموز والنهاية الموحية للقصة. فالورقة التي كتبت عليها الرسالة ظلت ملتصقة بالبيت ولا تغادره على الرغم من عصف الريح وانفتاح الأبواب والشبابيك. والتصاقها بطين الأرض وجوانب البيت "على الرغم من الجوع الذي توحي به القطة الجائعة التي قضمت أطراف الورقة أو الرسالة نفسها" يشير إلى مدى حنين راوي القصة ولوعته في التعلق بالوطن ممثلا بالبيت وأشيائه. ورمز الريح يشير إلى القوى المعادية مثلما يشير رمز القنفذ إلى القوى المدافعة عن البيت أو المدينة "حتى أنه أصبح فردا من أفراد العائلة" وذلك بما يمتلكه من قوى دفاع ذاتية بإبره التي يختفي تحتها أوقات الدفاع عن نفسه. وعلى الرغم من أن الكاتب يرسم صورة قاتمة للواقع العراقي وخاصة بعد النزوح ، إلا أنه في قصتين من قصصه الثلاث الخاصة بالنزوح "رسالة والنداء والأبواب" يوحي بالأمل والتمسك بالأرض والعودة إلى الجذور.
في قصة "رسالة" تظل الورقة التي تحمل الرسالة ملتصقة بالبيت وجدرانه على الرغم من صفع الريح وحدة الجوع وشدة التقطيع.
وفي قصة "النداء" تظل الشجرة ، التي يسقيها راوي القصة في حديقة بيته – واستمر بسقياها في أحلامه في فترة النزوح – تظل يانعة مثمرة حتى بعد النزوح للدلالة على عمق التجذر بالأرض والأمل بالمستقبل. وحدها قصة "الأبواب" تتحدث عن الوضع المأساوي للنازحين الذين لم يجدوا من يحتضنهم في منفاهم.
لكن هذا الحديث يدخل في مجال المجاز بتصور النازح الذي كان سيدا في داره ويتحول إلى متسول أبي النفس. ويصب الكاتب جام غضبه على الشعراء الذين يتملقون ذوي النفوذ بقصائدهم ويشاركون بذلك في الفساد الذي يمارسه هؤلاء الساسة والرشوة المتفشية في المؤسسات الحكومية. ولا يقتصر انتقاد الكاتب على فترة زمنية معينة أو نظام سياسي معين ولكنه يمتد إلى فترات زمنية متعددة وفترات سياسية مختلفة.
تمثل هذا الانتقاد في قصص "الشعراء" و"طرف اللسان" و استهواء. يتفرع عن القصص التي تهتم بالسياسة القصص التي يمكن تصنيفها ضمن المجال الاجتماعي-السياسي sociopolitical والتي تستقرئ الواقع الاجتماعي المتأثر بالواقع السياسي. والعشيرة بما فيها من ارتباط وترميز للدولة تصبح محورا يدور حوله الكاتب لإبداء آرائه في هذا الشأن. ولا يرى الكاتب أي جانب إيجابي في هذا النظام الاجتماعي بما فيه الكرم العربي حيث ينتقد أوباما لسرقته هذا التقليد العربي في الانتخابات. كذلك لا يرى فيه إلا نظاما اجتماعيا متخلفا لا هم له سوى التنافس على الزعامة.
ومن القصص الثلاث أو الأربع التي تجسد هذه المفاهيم تبرز قصة "عذره" برمزيتها العالية وتقنيتها المتقنة حيث تنصب ابنة شيخ عشيرة هاربة مع حبيبها الغجري شيخا لعشيرة أخرى.
وعلى النطاق القانوني وعجز القضاء عن تطبيق النصوص القانونية بروحها لا بحرفيتها تتحدث قصة "إخصاء" عن مشكلة الطلاق التي نشأت بعد الثراء غير المشروع للزوج ومقولة الزوجة المؤثرة وهي تهاجم النصوص القانونية:"... وإن نصوصكم القانونية قاصرة وموبوءة بالشروخ"، والواقع أن المشكلة تكمن في عدم قدرة رجال القانون على فهم روحية النصوص القانونية والتشبث بحرفيتها مما يخلق ثغرات ينفذ منها المحامون المهرة في التحايل على القانون ومفاقمة الظلم. ويدخل في باب الصعود الطبقي نموذجان من الشخصيات: الأولى تلك التي تخلت عن واقعها وتلبست بواقع آخر مختلف عنها ومثالها قصة "مهاوي" حيث يذكّر سارد القصة المعنية بالأمر مهاوي بأيام البصل ولكنه لا يذكر لنا شيئا عما آلت إليه مهاوي بوضعها الجديد اليوم بل يترك ذلك لخيال القارئ. والثانية التي ظلت تلازم طابعها وبيئتها الأولى وترفض التخلي عن هذه البيئة التي تحبها ومثالها قصة "بشيرة".
وفي باب التراث والحفاظ عليه نجد الكاتب يتخذ موقفا مضادا أو ثوريا فالجد في قصة "وصية الجد" ينقض كل وصاياه بالاستقامة لأولاده وأحفاده. قد نفهم من هذه القصة أن الكاتب يريد بها السخرية من الواقع وفق تقنية المفارقة irony ولكن ذلك يتلاشى عندما نقرأ قصة "المسبحة" حيث ترمز المسبحة للتراث الديني أو لتراث الأجداد المتوارث ولكن يتضح أنها لا تساوي شيئا بنظر تاجر المسبحات. ومثلما ترتبط السياسة بالدين فإن الكاتب لا يرى في هذا الارتباط إلا زيفا ولا يرى في شخصياته من المتدينين الا تمسكا بقشور الدين لا جوهره ويظهر ذلك جليا في قصتي "تقوى وإذا الملوك...".
وتخالف قصة "المرسلون" هذا التصور وحسنا فعل الكاتب بوضعها كفاتحة لقصص المجموعة لما تتصف من أفكار إيجابية عن هؤلاء الرجال الخيرين الذين يشبهون "بابا نويل" بتقديم الهدايا للصغار. كذلك فإن قصة "بلا عنوان" التي تظهر التخلف والجهل لدى الناس البسطاء والذين يلصقون أي تغيير بمسألة الإيمان والدين. ولكن الكاتب هنا يلمح من طرف خفي إلى أن جهل بعض القائمين على الدين يؤدي إلى معارضة أي تغيير أو تقدم علمي أو اجتماعي.
أما الأسطرة وهو المجال الخصب للكاتب فرج ياسين فتتمثل في قصص عديدة مثل:"أسطرة والقربان وأبابيل وعيسى وبالأسود والمصير وبس تعالوا والموت كمدا والظهور وعذره".
في قصة "الموت كمدا" يتحدث الرضيع في مهده مثلما تحدث عيسى المسيح في مهده ويتناول واقعا سياسيا لا يهتم بالأطفال وبالتالي لا يهتم بالإنسانية. وفي هذه القصة يشير الكاتب إلى نفسه بشكل صريح وإلى قصته "هبوط الطيور من الجنة" والتي يتظاهر فيها الأطفال ضد السلطات. وتتكرر إشارة الكاتب إلى نفسه أيضا في قصة أخرى بعنوان "الصوت" ولا يعد ذلك نرجسية من الكاتب، لأننا نعرف فرج ياسين مثالا للتواضع ونكران الذات، ولكنه يدخل في باب اعتبار الكاتب نفسه شخصيةً موضوعيةً لا تختلف عن الشخصيات الأخرى التي يتناولها الكاتب بشيء. ومثل هذه القصة من حيث الرمز الديني تجتمع قصتاه "عيسى وعذره والعذراء".
في الإنجيل يصلب السيد المسيح بين شخصين وهنا يرى السارد النقيب الشهيد عيسى جالسا بين رجلين عجوزين وهما بالنتيجة يستشهدان من أجل الإنسانية. وتقرأ قصة "الظهور" في السياق الديني نفسه حيث نقرأ بين السطور مقولة السيد المسيح: "من لم يرتكب خطيئة فليرم نفسه بحجر. وفي "القربان" يؤسطر القاص فيضان النهر حيث تمتد موجة لتخطف طفلا وتضعه في قلبها وكأنها أمه قربانا يفتدي به كل الإنسانية مثل قصة السيد المسيح وتضحيته تماما أو أسطورة فتاة النيل التي يضحى بها من أجل خصوبة النهر ووفرته لدى المصريين القدماء. ولا يقتصر الكاتب على التراث الديني المسيحي بل يتجه نحو القصص القرآني في قصة "أبابيل". يتجه الكاتب في هذه القصة – وفي قصة أخرى بعنوان "ووضع الميزان" - إلى ما يسمى في الأدب الإنكليزي بالعدالة الشعرية poetic justice حيث يأخذ المقصر جزاءه في نهاية الأمر. ويبلغ القاص ذروة التألق في هذا السياق بقصته الجميلة "المصير" حيث تمثل "القبّرة" العنود، والتي يحاول الإمساك بها عبثا، أحلامه التي لم تتحقق. وتأخذ القصص التي تتحدث عن الزمن حيزا واسعا بعدما تقدم الكاتب في العمر – أطال الله عمره - وتستعرض أهمية الوقت وعبثيته أيضا حين يقتنص الموت أصحاب الكاتب أو حين يغيب الرسام من أمام مناظره الطبيعية الخلابة أو حين تدق ساعة الأبدية. ويتخذ الكاتب من تقنية القصص الخرافية التي تجري على ألسنة الحيوانات قناعا كي يتحدث عن موضوعات حساسة كالجنس والتقدم في العمر والعاطفيات. فلو قرأنا الجزء الثاني من قصة "التراجع الكئيب" لوجدنا أنها تتحدث عن شوق سارد القصة إلى امرأة حبيبة بينما لو رجعنا إلى جزئها الأول لوجدناه يتحدث عن صديق رجل. وسواء كان المقصود به رجلا أم امرأة فإن الشحنة العاطفية قد أخذت مداها الأبعد في القصة ولم تنطفئ بانتهائها. ويولي الكاتب أهمية خاصة للفن الذي يتمثل بالموسيقى أو الرسم أو الغناء وخاصة في قصتيه "لا مكان للموسيقى والملائكة".
في القصة الأولى يوحي القاص بتغييب الموسيقى في المجتمع البغدادي، وفي القصة الثانية يؤكد موسيقية اللهجات العراقية ويؤشر جمالياتها. ويلمس القارئ في قصص فرج ياسين تأثر الكاتب بالعديد من أصدقائه الكتاب حيث تتضمن بعض قصصه إشارات معينة إلى أعمالهم وبعضها يعتمد الفكرة ويصيغها بطريقته الخاصة مثلما حصل في قصة "التقسيم" حيث يقتبس من مسرحية "الملك لير" لوليم شكسبير مضمونها بتوزيع ملكية الأب على أبنائه الثلاثة الذين يتخاصمون فيما بينهم على حدود ملكياتهم ويسورونها في نهاية الأمر ويدير كل منهم ظهره للآخر.