ادب وفن

"حديقة الأرامل".. أنسنة الواقع وأزمة الهوية / أحمد عواد الخزاعي

"الزيف في الأشياء لا في الكلمات أبداَ"، بهذه المقدمة الاستشرافية، المستقاة من رواية مدن لا مرئية لكالفينو، التي تبين للقارئ طبيعة المشاكل والعلائق الاجتماعية التي ستتناولها المجموعة القصصية "حديقة الأرامل" للقاص ضياء جبيلي، والتي تمثل مفهوما آخر للواقع ونظرة أخرى للحقيقة، ربما تكون مقلوبة أو مضطربة، لكنها محاولة لإعادة صياغة هذا الواقع من منطلق إنساني معرفي، وإماطة اللثام عن الوجه الآخر له، المتواري حلف قناعاتنا بحتمية أقدارنا، استخدم القاص فيها لغة سهلة مطواعة لطرح مفاهيم وإشكاليات معقدة ، تحمل أبعادا رمزية، تصل في بعض محطات المجموعة إلى حد السريالية، في طريقة فهم قصديتها والتعاطي معها.
ثيمات متعددة الأوجه، تناولت مشاكل اجتماعية واقعية، وما نتج عنها من تداعيات إنسانية، وأخرى نتجت عن الحروب والانتكاسات التي تعرض اليها العراق في تاريخه المعاصر، وما صاحبها من تداعيات إنسانية ، اقترب فيها القاص من محاكاة الكثير من التجارب الأدبية العالمية، في محاولة منه لأنسنة الواقع ، يعرف ادوارد سعيد الأنسنة "هي المقدرة على عزل المألوف عن غير المألوف، وفرز العادي عن الاستثنائي في الأعمال الجمالية، كما في مقولات الفلاسفة والمثقفين والشخصيات العمومية، فالأنسنة هي إلى حد بعيد حركة مقاومة الأفكار المسبقة، وهي تعارض كل أنواع الكليشيهات الجاهزة". روايات، قصص، مسرحيات، حكايات شعبية، مثل "الشيخ والبحر لهمنغواي، روميو وجوليت لشكسبير ، زوربا لكازنتزاكي" وغيرها الكثير من أسماء أدباء، وانجازاتهم الأدبية، حضرت في المجموعة ووظفها القاص لخدمة نصوصه، وأشارت إلى امتلاكه ثقافة استثنائية واطلاع كبير على التجارب الأدبية العالمية، والتي انعكست بطريقة وأخرى على هذه النصوص، من حيث الأسلوب واللغة والتقنيات السردية، وطريقة تعاطيه مع واقعه وبيئته بشكل إنساني، يحمل أبعادا ايجابية، فقد حاول القاص الغوص في مجاهيل النفس الإنسانية وفك بعض شفراتها السرية، منطلقا من مفاهيم إنسانية جدلية، ليعيد صياغة هذه الأشياء التي أشار إليها في مقدمة مجموعته، بطريقة تكشف زيفها وتُرينا الوجه الآخر لها.
إن أهم ما يميز هذه المجموعة، هو حضور مميز لثقافة المكان، والأسماء، "عناوين أماكن، أسماء مدن وشوارع، أسماء أشخاص"، واستخدام القاص للزمن كإشارة حسية ومادية مؤثرة في حركة الأبطال، مستعينا بتقنية القفز في بعض النصوص، وتقنية التداخل الزمني، بين زمن الحكاية "المدلول"، مع زمن السرد "الدال عليه" في نصوص أخرى، وكانت لضياء جبيلي القدرة على صياغة الشخصية والحدث الغرائبي وصهرهما في بوتقة سردية، تنتج ثيمة تحمل دوال رمزية إيحائية، مستخدماَ لغة سهلة ذكية ذات نمطية ثابتة، تعتمد إيقاعا ثابتا لا يتغير مع تغير شكل الحدث أو حركة الأبطال، ضمن رؤية أدبية مزدوجة، فقد طغى على الوجه العام للمجموعة "الرؤية من الخلف" سارد عليم، عدا قصة "السنوات المتخيلة لكافكا" فقد كانت "الرؤية مصاحبة" بحيث لم تتجاوز معرفة الكاتب بالأحداث بقدر الشخصية نفسها "سارد داخلي".
يمكن تقسيم مجموعة "حديقة الأرامل" إلى قسمين رئيسين:
القسم الأول يمثل مجموعة قصص تنضوي تحت عنوان "أدب الحرب" سأتناول بعضا منها:
1- محنة الجندي حميد: أشار هذا النص إلى جدلية تاريخية وهي "أزمة الهوية" وعقدة الانتماء، وعلاقة الأنا بالآخر، الذي تحول إلى وطن في هذا النص، قتل على حدوده الجندي حميد، بعد أن فضل البقاء جريحا في الارض الحرام، على أن يصبح أسيرا، كان نصا واقعيا من وحي الحروب التي خاضها العراق، وقد أضفى عليه القاص بعدا انطباعيا من خلال ذكر اسم الجندي، والتاريخ الذي قتل فيه، واسم المكان الذي ضم جثته لسنوات طويلة، والذي كان مكاناَ معادياَ، حسب تصنيف جيرار جنيت.
بعد سنوات طويلة من النسيان، يتصالح أثناءها الطرفان المتحاربان، ويعثر على الهيكل العظمي لحميد، ليصبح محل نزاع بينهما، لأي طرف ينتمي .. استخدم القاص في هذا النص تقنية السارد العليم، لكنها تتحول في إحدى محطاته، إلى سارد ضمني، وذلك حين أحال القاص سبب سقوط حميد جريحا في ارض المعركة إلى عدة احتمالات.. كما في النص الآتي "وعلى ما يبدو أن احدهم باغته بتلك الضربة من أخمص بندقيته، بدلالة الدم المتيبس على رقبته".
2- حديقة الأرامل: كانت هذه القصة هي العنوان الرئيس للمجموعة، وقد استحقت هذا التكريم، كونها اختزلت عدة ثيمات ومواقف إنسانية وجدليات تاريخية في نص واحد، إضافة إلى استعانة القاص ببطل رواية زوربا لكازنتزاكي، بكل دواله النفسية والإنسانية، ليكون جزءا من محورية الحدث فيها.. وقد اخترت هذه النص ليكون احد نصوص أدب الحرب، كون البطلة فيه تمثل أنموذجا حياَ، للكثير من الأرامل اللواتي فقدن أزواجهن في الحروب العبثية التي مرت بالعراق.. تعلقت هذه المرأة بولدها الوحيد، الذي كان يعشق قراءة الروايات، والتي كانت تعدها مفسدة لأخلاقه، وتعمد إلى حرقها وإتلافها كلما وقعت تلك الروايات بين يديها، هذا الهاجس الجنسي الذي تعيشه الأم حاولت تصديره إلى ابنها، ليتفاقم هذا الإحساس لديها وينتج واقعا إنسانيا غرائبياَ، حين يدفن ابنها رواية "زوربا" في ارض حديقة المنزل، خوفاَ من إحراقها على يد أمه ، لينبت في مكانها فطر صغير، يتحول بمرور الزمن إلى رجل ناضج هو زوربا نفسه، لتتخذه الأم زوجا لها، وتصبح حديقة منزلهم محطة تجمع لكل ارامل الحي، عسى أن تنبت أرضها رجالاَ لهن.
بناء حكائي بسيط أسلوبا ولغة، إلا انه يحمل دوال فكرية مركبة ، تعكس الواقع المرير الذي تخلفه الحروب، والتي تصنع جيوشا، من الأرامل والأيتام والمحرومين، والمشاكل الإنسانية الكبيرة.
كانت رغبة مكبوتة عند الأم، بأن تحظى بزوج كتعويض نفسي وجسدي لوحدتها القسرية، وأزمة الهوية التي تعيشها، حاولت أن تواري هذه الرغبة بأغشية مستعارة واهية، استطاع ذلك الصبي اختراقها، ومعرفة سر أمه مع تلك الروايات، ورغبتها الدفينة "ابتعد عن رجلي يا ولد"، لينتهي هذا النص بسؤال جدلي كبير "كم زوربا نحتاج لحديقة سوداء من الأرامل".
3- ذروق التنين: نص يشير إلى أزمة الهوية التي عاشها طيف واسع من الشعب العراقي لعقود عدة في تاريخه الحديث، حاول القاص صياغة ثيمة إنسانية، يتناول من خلالها هذه الإشكالية الاجتماعية والسياسية، بطريقة تحمل الكثير من السخرية والتهكم، عبر حدث غرائبي يمثل في بعض جوانبه "كوميديا سوداء".
الرجل العراقي البصري الذي يعشق البهارات والفلفل الحار ويطلق عليهما تسمية "ذروق التنين".. ليدفع ثمن عشقه هذا بأن يتهم بأنه هندي الجنسية، بعد انتفاضة آذار عام 1991 ، يتعرض خلالها إلى التعذيب والإذلال من قبل اجهزة النظام البائد، لإجباره على نكران عراقيته التي تمسك بها، إلى أن يتم ترحيله مرغماَ إلى الهند.
4- قارئ جورج اوريل: من وحي الحروب ومآسيها ووقعها السلبي على النفس الإنسانية، اختار القاص هذا الحدث ليبرز الجانب الآخر للحرب.. جندي يعيش صراعا نفسيا حادا أثناء التحاقه إلى جبهات القتال، إبان الحرب العراقية الإيرانية، والذي تمنى أن يتحول إلى حيوان، بدلا من التحاقه بالحرب "هل يمكن أن أكون غرابا...." إشارة إلى ضياع البوصلة الإنسانية عند الكثيرين، وغياب الهوية الوطنية، بسبب عدم قناعتهم بجدوى هذه الحرب العبثية.
القسم الثاني سأتناول نصين منه:
1- البحث عن الزمن المفقود: نص يعالج الصراع الأزلي القائم بين الإنسان والزمن، استخدم فيه القاص تقنية القفز، ليتم اختزال عدة عقود ضمن حيز سردي صغير .. الرجل الذي قضى أربعة عقود من عمره في قراءة رواية لم يفهمها، حملت عنوان "البحث عن الزمن المفقود" ليدرك بعد إحالته إلى التقاعد، بأن ذلك الزمن كان عمره، هناك شرح وتفصيل داخل النص غير مبرر، افقده شيئا من رمزيته ، وبالأخص ما ورد على لسان البطل في خاتمته "هذا ما يسمونه البحث عن الزمن المفقود".
2- نجوم الظهيرة: الطفلة التي قُتلت أمها غسلا للعار من قبل أبيها، موضوع إنساني له خصوصيته وحساسيته الاجتماعية، تناوله القاص ليسلط الضوء على ما وراء هذا الحدث، تسأل هذه الطفلة الضحية أسئلة، تطرح إشكاليات أزلية، لا تجد الجدة العجوز إجابات لها، هذه الأسئلة التي بدت فوق مستوى السائل والمسؤول، لكنها كانت تمثل صرخة إنسانية بوجه الأقدار التي تتحكم بمصائرنا، كانت هذه الأسئلة عبارة عن استفهاماَ، لشعراء وأدباء يمثلون جزءا حيويا من السفر الإنساني:
- ماذا يفعل الأصم بجرس الباب ؟
- من أسأل عما جئت اصنعه في هذه الدنيا ؟
- أين تذهب الأصوات عندما لا يسمعها أحد ؟
أسئلة مفتوحة على المجهول، لم تحصل على إجابات حتى الآن.