ادب وفن

المكان الحقيقي والمكان الافتراضي في روايات عبد الخالق الركابي / داود سلمان الشويلي

كتب الروائي عبد الخالق الركابي مقالة صغيرة نشرها على جدار صفحته ، بعنوان "جغرافية رواياتي" لتوضيح سوء الفهم الذي تولّد عند بعض النقاد – كما ظن الركابي قد حدث في كتاباتهم – عن المدينة والمكان الذي تقع فيه احداث رواياته، وفك سوء الفهم أو الالتباس بين مسقط رأسه "بدرة" والمدينة الاخرى التي قدمها في بعض رواياته، مثل "مدينة الاسلاف" إذ قال: "وما أكتبه في هذا المنشور لا يتخطى توضيح جانب يتعلق بالمدن والأماكن التي تجري فيها أحداث رواياتي؛ ذلك لأنه غالباً ما يحدث خلط بين مدينتي "مسقط رأسي" بدرة ومدينة الأسلاف المفترضة أو مدينة مجهولة لم أذكر اسمها في الرواية".
في بعض الاحيان ينسى الكاتب نفسه فيكتب أمورا واشياء لا يعني بها نفسه، الا انها هي من اموره واشيائه الشخصية، الا انه يكتبها تحت وطأة الرغبة اللا شعورية "الهو"، أي يتحكم في ذكرها العقل الباطن عنده.
واذا عدنا الى ابداعات الروائي الركابي السابقة، او اهتماماته، فإننا نعرف انه كان – وما زال – يكتب الشعر، وان ما ورد في رواية "سابع ايام الخلق" من قول "ورقاء" بان للراوي "الشخصية الرئيسة" رواية سابقة ودواوين شعر، فهذا يذكرنا بالشاعر عبد الخالق الركابي وكذلك بالروائي ذاته. فتكون عند ذلك المدينة التي يتحدث عنها في الرواية هي مسقط رأسه "بدرة" ، لأن الشاعر والروائي الذي عنته "ورقاء" سيتماهى والكاتب عبد الخالق الركابي، وهذا استشفاف مما ذكر من القرائن تلك في هذه الرواية ، وانا هنا لا اقصد ان الكاتب هذا او ذاك قد اختبأ خلف شخصية ما في روايته ، بقدر ما كان الموضوع متعلقا بالمدينة .
والحديث عن مدينة "الاسلاف" التي في هذه الرواية أو غيرها من روايات الكاتب فانها تعني بالضبط مدينة "بدرة" ومهما غيّر فيها وبدل في تضاريسها الجغرافية او العمرانية فانها هي " بدرة " ، حيث يقول في مقالته القصيرة تلك عن مدينة الروايات الثلاث الأولى "نافذة بسعة الحلم" و"من يفتح باب الطلسم؟" و"مكابدات عبد الله العاشق" التي تجري فيها الاحداث وكأنها "تجري في ريف قد يشبه ريف بدرة" ولما كان ريفها يشبه ريف "بدرة" فإننا كمتلقين نستشف بأنها هي بعينها، حيث جلب ريف بدرة الى مدينة الاسلاف في روايات" الراووق" و"قبل ان يحلق الباشق" و"سابع أيام الخلق".
أما تسمية مدينة الاسلاف بمحافظة الاسلاف "رواية سابع ايام الخلق" فهذا يعود الى قوة المخيال ونشاطه عند الروائي الركابي في ان يبدع .
كذلك ذكر في رواية "اطراس الكلام" انها "مدينة جنوبية قريبة من الحدود الإيرانية" ولا توجد مدينة مواصفاتها كهذه في الواقع وعلى الخارطة يعرفها الكاتب سوى مدينة "بدرة" مسقط رأسه ، وهذا يذكرنا بالوصف الذي كتبه لمدينته على جدار صفحته ، وقد ذكرته في دراستي المنشورة في جريدة "الحقيقة". إذ قال "من المعروف أن مدينتي بدرة المتاخمة لجبال زاغروس الإيرانية كانت في طفولتي وصباي، معزولة عن الدنيا، لا توجد طرق إسفلتية تربطها بغيرها من المدن العراقية. وكان الوصول إلى أقرب مدينة مثل الكوت أو بغداد يعتمد على مهارة سائق السيارة وفطنته في معرفة طوبوغرافية الصحراء الشاسعة. وقد حدث أن ضلت أكثر من سيارة سبيلها، ولم يعثر عليها إلا بعد مرور أسابيع أو أشهر تحوّل خلالها المسافرون المنكودون إلى جثث أجهزت الذئاب عليها؛ لذلك كنت أشارك الركاب الآخرين هلعهم طالما تشق إحدى السيارات بنا سبيلها المبهم عبر الصحراء، ولم يكن يهدأ لي بال إلا حينما يلوح لنا الطريق الإسفلتي؛ حينها أشارك الآخرين بإطلاق صرخة ابتهاج مردداً معهم بصوت واحد:
- الحمد لله.. راح نصعد التبليط!
والآن وبعد مرور كل هذه السنوات واستقراري النهائي في بغداد أتمثّل بذلك الزمان كلما شرعت في كتابة رواية جديدة؛ أظل أعاني شهوراً قبل أن تسلس الأحداث لي قيادها إذ حينها أطلق في مكتبتي صرخة ابتهاج يجيب عليها من الصالة من معي من أفراد أسرتي:
- ها.. بشّرْ.. صعدت التبليط؟". وهو الوصف نفسه ، او بعضه ، الذي قدمه في رواية "اطراس الكلام" وقد ذكر ان الطريق يشق الصحراء، وكذلك ذكر الجبلص77
اما في روايتيه "سفر السرمدية" و"ليل علي بابا الحزين" فيذكر المدينة على انها مدينة "الاسلاف"، و"الاسلاف"، و"مدينة الحروف والكلمات "، و"فردوسك الارضي" ، و"الملجأ الآمن "، كما قلنا هي مدينة الكاتب " بدرة ".
وفي رواية "ما لم تمسسه النار" هي مدينة "بدرة" كما ذكرت ذلك في دراستي المنشورة في جريدة "طريق الشعب" تحت عنوان "في الكتابة الروائية...الابداع الروائي وعبد الخالق الركابي والبحث عن بطل لرواية" ما لم تمسسه النار".
وان الكتابة السردية او الشعرية، أو بعضهما، تأتي من باب اللاشعور الذي يفتح ويغلق لا ارادياً، عند دراسة عالم الواقع ودراسة عالم الخيال، فقد وجدتني في دراستي المذكورتين اعلاه اجعل من مدينة "بدرة" مسقط رأس الكاتب الحقيقية "عالم الواقع"، هي مدينة " الاسلاف " عالم الخيال، وهذا من حقي في دراسة وفحص النص ، إذ "الناقد" له الحق ان يدرس ويفحص "لاوعي "الكاتب، يدرس ويفحص "وعيه الظاهري" .
مما سبق يمكن القول ان المدينة في كل روايات الكاتب عدا رواية "مقامات إسماعيل الذبيح" هي مدينة "بدرة"، ان كانت بإسم مدينة الاسلاف او بإسم آخر او بلا اسم .
هذا ما وددت ان اوضحه فيما يتعلق بما كتبته عن مدينة "بدرة" في الدراستين التي ذكرتهما في هذه السطور، محبتي للجميع، وللروائي العراقي الكبير عبد الخالق الركابي .