ادب وفن

شعرية الواقع في "جثة في بيت داكن" / عبد علي حسن

يؤثث الشاعر مازن المعموري نصه الشعري في مجموعته الشعرية "جثة في بيت داكن" وفق مستوى شعرية الواقع، وهو واحد من مستويات الشعرية الذي تمكنا من تأشيره إضافة الى المستويين الآخرين وهما شعرية اللغة وشعرية المعنى، ويلاحظ ان هذه المستويات الثلاثة للشعرية هي من المكونات البنائية الداخلية للنص فضلا عن وجود مستويات أخرى للشعرية تتعلق بالمناصات الخارجية والداخلية/ نصوص موازية للنص الأصلي كشعرية العنونة و شعرية الإهداء ولوحة الغلاف والنصوص الوثائقية المتداخلة مع النص. واعني بالشعرية كما شاعت في الدراسات النقدية الحديثة بعدها "الدراسات المنهجية التي تقوم علم اللغة للأنظمة التي تنطوي عليها النصوص الأدبية، وهدفها هو دراسة الأدبية أو اكتشاف الأنساق الكاملة التي توجه القارئ الى العملية التي يتفهم بها النصوص". وتعد بنية الانزياح واحدة من الآليات المعتمدة في تحقيق الشعرية حسب كوهين. لذا فإن النص عند مازن المعموري هو إعادة إنتاج الواقع وتقديم رؤية فوق واقعية لتحقيق الدهشة والكشف عن جماليات القبح التي يحفل بها الواقع العراقي منذ بدء مسلسل العنف الدموي لإظهار الغامض في تلك المظاهر الدموية المتجلية والبائنة للمتلقي. ولم يكن أمام هذه التجربة إلا ان تقوم على أساس الأداء المباشر للمتلقي وبذلك تحقق تغريد جديد لمجموعة هذا المشروع الذي شهد أكثر من ممارسة في الأمكنة التي اشرنا إليها.
يمكننا القول بأن نصوص المجموعة الجديدة قد ولدت في رحم مشروع "ميليشيا الثقافة" سيما وأن المعموري هو العضو المحرك لهذه المجموعة من الشعراء الذين جرى الاهتمام بمنجزهم محليا وعربيا وعالميا حتى عده البعض بانه المشروع الجديد للشعر العراقي وممثلا له لما حققه من تفاعل موضوعي مع حراك الواقع.
إذن ما يميز نصوص مجموعة المعموري الجديدة هو قوة الخطاب الافصاحي الذي يكشف عن اللامرئي في مظاهر العنف والإكراهات التي تواجه الفرد العراقي، فالنص عند المعموري يعتمد الواقعة المتبدية والمحسوسة للمتلقي بعده من مكونات تلك الواقعة ثم يبدأ بضخ المزيد من النصوص والرؤى المتخيلة لبناء المشهد السريالي وبشكل يتماهى جدا ويقترب من الواقعة لتقديم النص الجمالي الموازي والجواني وغير المرئي للمتلقي. .إذن تتحقق للنص القدرة على تجاوز الواقعة كتسجيل أو توثيق أو محاكاة الى إعادة صياغة الواقعة بشكل مدهش ومغاير للحراك الواقعي الصرف أو المتبدي وبذلك يحقق النص شعرية الواقع عبر الانزياح في القوانين والظواهر العيانية الى زحزحة بنية الواقع باتجاه تخليق جماليات قبح المظاهر العنيفة التي تواجه المتلقي بشكل يومي ومن الممكن عد ذلك واحدا من المداخل الصعبة والمهمة للواقع المعيش والانفلات من سطحيته الى جوانيته لتحقيق تلك الشعرية.
يستدعي الدخول الى نصوص المجموعة لأجل تحليلها وفق ما ذهبنا إليه من توصيف بنائي اعتمد شعرية الواقع كمستوى شعري بائن، يستدعي المرور عبر العتبة الأولى للمجموعة وهي العنوان بعده مناصة خارجية، سيما وانه ( العنوان) لا يحمل عنوان احد نصوص المجموعة وبالتالي فان استقلاليته الدلالية تشير الى أولا اعتماده كفضاء دلالي تتحرك وفقه جميع نصوص المجموعة ومن الممكن التوصل الى هذه القراءة بعد الانتهاء من تلقي نصوص المجموعة وإيجاد نوع من التواصل الدلالي بين العنوان ومغزى النصوص. وثانيا فإنه بالإمكان قراءة العنوان كدلالة مستقلة تم رسم مشهد يقترب من التكوين السريالي وفقها فضلا عن الدلالة اللونية لمفردة "جثة" التي خطت باللون الأحمر للدلالة على الوضع الدموي الذي يكتنف الجثة ووجودها ضمن فضاء مكاني معتم وداكن "في بيت داكن".
أما العتبة الثانية المتكونة من جملة "عميق ذلك الألم الذي أحدثته الكتابة" فهي تشير الى مدى الإحساس بقوة التعبير عن المجريات وصدقها لتؤكد مهمة اللغة بعدها التعبير المباشر للأفكار وبالتالي تأكيد التعالق والتفاعل بين ما يكتب والإحساس به وقوة الذهاب بعيدا الى مديات أوسع مما يتبدى من ظواهر للتعبير غير المباشر عنها. وإذا ما تم ضم مغزى قراءة هاتين العتبتين فإننا سنكون أزاء مدخل مدهش لحيثيات النصوص التي سوف لا تبتعد عن المدخل الفنتازي/ السحري/ العجائبي/ الغرائبي وكل هذه المفردات وجوه لعملة واحدة وهي التعامل مع مفردات الواقع وفق وجهة نظر فوق واقعية بغية تجاوز السطح الظاهري للظواهر الدموية التي تحفل بها الحياة اليومية منذ بدء الاحتراب الطائفي والسياسي والديني العاصف بالحياة اليومية، ولا يمكن الوصول الى تحقيق هذه المهمة المزدوجة الصعبة المتضمنة الواقع وفق التفاصيل المتبدية والمعاشة من قبل المتلقي وتجاوزه الى ما وراء هذا الواقع من واقع مواز لا يصل الى كشفه غير الشاعر الذي سيتولى إعادة إنتاج الوقائع وفق الكشف عن الجمالي في قبح هذا الواقع وهو رسم المشهد غير المألوف والمكتنز بفواعل الانزياح اللغوي لترصين عملية شعرية/ تخليق الواقع مجددا وسيتبدى ذلك من خلال قراءتنا لنصوص المجموعة التي وضعها الشاعر تحت عناوين "جولات" للإشارة الى تواترية أو متوالية هذه المظاهر الدموية فضلا عن العنوانات اللغوية التي اختصت بها كل جولة من الجولات الـ 18ــ فيما استقل النص الأخير بعنوان منفصل "جولة العشق".
ففي نص "لحم منثور" يبني النص محاولته في تخليق الواقع الموازي متهيكلا على مشهد منظور في اغلب مظاهر الإنفجارات وهو تناثر لحم الضحايا وتشظيها وانتشارها على الأعمدة والأسلاك الكهربائية، إلا ان النص يتجاوز هذه المشهدية الملموسة والمحسوسة الى الكشف عن الغامض في هذا المشهد وهو كشف خاص بالشاعر ينتقل الى المتلقي عبر الرسم الما فوق واقعي/ سريالي لتعميق الإحساس بفجيعة وقساوة هذه المشهدية فنقرأ:
"تركض الأم.. ولا تدري كمية الهواء الكافية
لاستبدال كيلوات من وزن طفلها.
المعلق بأعلى عمود الكهرباء
سوى ان ركضها يتجه الى الأعلى".
ففي المقطع الآنف الذكر محاولة لتخليق الواقع غير المرئي لظاهرة تناثر لحم الطفل ومحاولة الأم إيجاد ما يماثل عدم عثورها على طفلها سوى ان تتجه بعينيها الى السماء للإشارة الى تماهي ما تبقى من جسد الطفل مع الموقف الإلهي أو غيابه - الجسد - بشكل كامل عن الأرض باتجاه السماء.
وفي مكان آخر من النص نقرأ أيضا:
"بحيرة الدم الأخطبوطية
تمتد الى عتبة الدار..
الباب مفتوح..
والبيت يتدلى من النافذة".
فالمقطع يمتلك قوة الإدهاش في تكريس دموية المشهد عبر تصوير بحيرة الدم المنتشرة بشكل عشوائي في كل أرجاء البيت الذي تغطى بشكل كامل بالدم. ولعل تخليق هذا الواقع النصي الجديد كان يراد منه تعميق الإحساس بفداحة المظهر الدموي جراء ما سفك من دماء في الانفجار..
وفي نص "سيطرة الحلة 2016" يتماهى مع ما حصل من انفجار السيارة المفخخة في سيطرة الحلة/ بغداد. ويعتمدها كواقعة راكزة في ذاكرة المتلقي. .إلا انه – النص- لا يمكن ان يتوقف عن حدود كشف المكتشف والمتبدي للمتلقي وإنما عليه ان ينأى الى ما وراء هذه الواقعة لتكريس البنية الجمالية لقبح هذه الواقعة من خلال تخليق اللامألوف وغير المحسوس في الواقعة، فنقرأ:
"تقول امرأة مسرعة لزوجها:
"ها. لميته؟"
كانت دموعها تزحف
وعباءات المارة تطير".
والمقطع الآنف يرسم مشهدا فوق واقعيا لحركة المرأة وركضها لتجميع ما تبقى من لحم طفلها. في الوقت الذي كانت فيه دموعها تزحف لتسهم في "لم" لحم طفلها. فيما تطايرت عباءات المارة بفعل الانفجار.
كما نقرأ في نفس النص:
"وجدت امرأة تركب رأس ابنتها
على جذع مقطوع صغير
وتلقم فمها حلمة ثديها".
فعلى مستوى الواقع المنظور لا يمكن تلمس سعي المرأة لوضع رأس ابنتها المقطوع على جذع النخلة المقطوع ليداخل عملية القطع على مستوى مشترك بين قطع رأس الطفلة وقطع الجذع جراء الانفجار. . كما وتسهم الحركة الثانية وفق رسم مشهديتها السريالية في تعميق الإحساس بقوة الفاجعة عبر تخيل المرأة وهي تلقم فم طفلتها في الرأس المقطوع لإرضاعها. .لذا فان هذا التخليق للمشهد الجواني والمتوازي لقساوة الانفجار وما آل إليه.
وتحفل المجموعة بنصوص قاربت الواقع المأساوي والدموي المهيمن على حياة العراقيين اليومية. متخذة من تلك الوقائع الخلفية أو القاعدة التي تنطلق منها للكشف عن جوانيتها بشكل جمالي لا يبتعد عن مهمة النص الشعرية في زحزحة اللغة واكتسابها شعرية التجاوز لكل ما هو مألوف باتجاه مغايرة المرئي والسطحي الى ما وراء الوقائع لتعميق الإحساس بفداحة الخسائر الاجتماعية وللكشف عن ما هو غامض وغير مكتشف بالنسبة للمتلقي. وبذا حققت نصوص مجموعة "جثة في بيت داكن" بناء شعرية الواقع عبر التزامها بمواضعات قصيدة النثر مفجرة طاقة اللغة لتأكيد انزياحها عن البناء النثري والانتقال بها الى المستوى الشعري المتجاوز لاستهلاكية اللغة النثرية وفق مفهومها الاستعمالي. وهذا بالضبط ما يحتاجه الشعر العراقي المعاصر ليكون محايثا ومقتربا من حراك الواقع ومعطياته التي لا يمكن تجاهلها وإدارة الظهر لها. إذ ان ما تمتعت به النصوص من قدرة لغوية على إعادة إنتاج الواقع العراقي وفق رؤى متخيلة اقتربت من الرسم السريالي للمشهد الملموس قد مكنتها من تقديم جماليات القبح في هذه المظاهر الدموية عبر طرح اللامألوف والمغاير لما يتلمسه المتلقي في ارض الواقع.