ادب وفن

الواقع السحري في "أصوات من هناك" / حسن مروح جبير

هذه الرواية هي دفاع عن وجود اندثر, وأُريد له أن يستمر, ولكن بمنطق آخر, وخلق جديد بدا فيه أكثر سحراً, واشراقاً, بل وأكثر اكتمالاً, إنه منطق الفن, بعد أن تعرض هذا الوجود إلى التهديد بالمحو.
قد يكون هو دفاع, وانعاش جاء تحت ضغط أقلق الكاتب, وأضناه حتى أزّه إلى بعثه وإحيائه, ثم قيامته. ولما بلغ القصد اكتسب هذا الوجود منة الخلود؛ فعادت الحياة إلى "ساسي" ففتح شاطئيه إلى "الخنياب" وغردت عصافير قرية "الجدي" وتثاءب "تل ساسة" في وجه الفجر, ونهض الغابرون في حلة جديدة يؤدون صلاة الفجر, وبدت الحياة مثلما كانت, وأمست الرواية مثلاً مثلما أمست "أنا كارنينا" ومدام بوفاري ..و.. وعلى حد سواء, وفي واقع جديد, مكتمل النضج في جميع ثيماته, وأركانه, وجوانبه, منسجماً مع بعضه, ومع ما حوله انسجاماً بديعاً, وبدا في حبكة رصينة لا خلل فيها.
لم تكن الرواية رواية اصوات فقط مثلما تخيل البعض بعد قراءة عابرة, بل هي صراع دام, من أجل البقاء. كان مصرع "يوسف" جزءا منه. صراع الانسان مع الانسان, وصراع مع الطبيعة, صراع أحكم قبضته على كل تلك الاصوات, انساناً كان, أو جمادا, صراع قادته أنواع من المرارات, وافرازات المعتقدات المتوارثة, والتقاليد السائدة, وتحكمت في قوتها تأثيرات الخرافة ونالت منه الأساطير حتى اكتسب واقعه المشوه, والمتميز الذي كشف عنه الكاتب, وأزاح عنه كل غموض؛ فارتقى بالرواية شكلاً ومضموناً, بعد أن اغتنت بهذا الواقع الجديد, مجردة, ومبتعدة عن السرد المسترسل, والرتابة المملة, والواقع المألوف...
إنها لسيت أصوات نشاز في جوق موسيقي مبتدأ, وذلك لإمتلاكها خصوصيات ذواتها. وقد خُلقت لتفرض وجودها فرضاً مريحاً ليحقق الوجود الجديد, وبوجه آخر أكثر سحراً, حتى انبرت تلك الاصوات, استعادت جرس صوتها الحلمي, الجهوري, وعلى امتداد صفحات الرواية, تحقق هذا الوجود أو تلك الاستعادة بعد ولادة عسيرة, خسرت فيه "وردة" طبق الخوص بعد أن التهمته النيران التي امتدت لتلتهم الأكواخ أيضاً بعد أن أتيح لها فتح "بوابات الموتى" ولم تتمكن من اغلاقها, كي تكتمل الحكاية, حكاية تنطقها تلك الأصوات التي ارتفعت, ولن تلجأ إلى الصمت حتى يتسنى لها التصريح بالحقيقة..
لقد تعددت تلك الأصوات, وبنبرات متميزة, اتاحت لهذا التمييز الفرصة أمام الكاتب, وكان يملك زمام الأمر في السيطرة, والتحكم في بناء الرواية وعالمها بناء فريداً, ومتميزاً بعد أن اعتمد, او كرس النزعة "البولفونية" في بناء روايته. وهنا أتاح للمتلقي فرصةً مريحة للسياحة عبر دروبها الكثيرة , وفضاءاتها العديدة, وهو يصغي إلى ما يهمس به كل صوت من جماد, أو كائن حي بنبرة صريحة, من خلل تنهيدة, وهمسة قرب "شريعة" أو رعشة خوف خضت بدن "وردة" الساحرة أو "جمهوري" وهو يتأمل حروف إسم "الهولي" مندهشاً: م.. ط.. ر.. ويصغي المتلقي إلى حسيس الموج في نهر ساسي, أو عواء ثعلب في بستان الحساوي, أو يكترث لمرأى "السعلوة" أو "الطنطل" أو "عبد الشط". أو يلمح شبح "حلاخيم" زعيم الجن الذي يظهر قرب بيت "وردة" بهيئة قط أعور.
أصبح الواقع المألوف غنياً بالخيال, حافل الفضاء بالكثير من الصور, سواء التي وفرها استخدام الخرافة, كاستخدام "شمهروش" من قبل وردة الساحرة وهو عفريت من الجن تسخره في جلساتها السحرية, أو سكان قرية السلمان, ذوي الحدب فوق ظهورهم... والقرية التي يحرسها الجن وهم يبدون بشكل أخضر, كذلك ما اعتمده المؤلف مما جاء في الموروث الشعبي من الحكايات, وهو الأكثر صدقاً عند الناس, والذي مثله ربط "السبع" مع "العجول" في كرامات السيدة "مسيرة", حيث يعتقد السكان في قرية الجدي أن روح تلك المرأة لم تغادر المكان, ومازالت تدور حول المزار. مثلها مثل روح يوسف الذي اغتيل بلا جريرة, من قبل "جبار الغيلان", تطوف حول الحفرة التي سقط فيها, اضافة لذلك قطع شعرة من شارب الأسد من قبِل جدة وردة. وقد مثلت تلك الحكايات ثراء اتحف الرواية بعالم الخيال عالم السريالية او العالم الغرائبي السحري الذي ابدع فيه السابقون كما في منجز ماركيز وغيره. كما ترك الكاتب للاسطورة دوراً فعالاً في تلوين واثراء الأحداث, واكسبها مهابة صانت المضمون من البساطة, والواقعية الفجة, وارتقت به الى العالم الجديد الذي خلقته تلك الأصوات, ليترك المتلقي مسحوراً, وكأنه أمام شبح "نيتي" أو يصاب بدهشة ظهور سفينة نقل الأرواح على حدود تل ساسة...
يرتبط كل شيء في الرواية ارتباطاً وثيقاً بمحليته, وواقعه الحسي, الشجي.. تل ساسة والجدي والسفينة والخنياب وهو فيضان نهر ساسي في فصل الربيع, أو عيد دخول السنة الجديدة. وكانت الأسماء مرتبطة بالزمان والمكان أيضاً: مطر الهولي, ملا عليخان, وردة, جمهوري, وجاءت متكافئة مع نسيج الرواية المرتبط مع بعضه بنسق رائع, وفريد...
رواية "أصوات من هناك" رواية رائعة, شكلت قفزة في عالم الرواية العراقية, فقد تخطت السائد والمألوف بمضمون محتواها المتشكل من الواقع, والواقع السحري, وبإطارها الزمني غير المحسوس, والمسترسل من خلل السرد على ألسنة تلك الأصوات الأليفة, أشبه بمناجاة عذبة على "شريعة" وبفخر من شاطئ "ساسي" متحدية حرب الأعوام الثمانية, وقبلها حرب الشمال, وأعوام الحصار الجائر...