ادب وفن

سارين .. سارين : قراءة نقدية لقصيدة الشاعر المغترب نجم خطاوي / عيسى مسلم جاسم

من البديهيات التي لا غبار عليها، هي اسدال الستار على الصور المؤلمة وتمزيق أوراقها من دفاتر التاريخ، حتى بات العالم المتمدن الذي ذاق ويلات الحرب، ونهشت أنياب الدمار أوصاله، بل أن دول اوربا الشرقية "الاشتراكية" قبل عقد التسعينيات من القرن الماضي "العشرين" قد شرعت القوانين الصارمة الرادعة لكل من تسول له نفسه المريضة نبش ذكرى الحرب، بل وكل ما يرتبط بها من بعيد أو قريب، فهذه جريمة يحاسب عليها الدستور، ربما هي وفق الترابط الشرطي، ووفق نظرية العالم التربوي والنفسي الروسي "بافلوف" وان دل ذلك على شيء، فانه يدل على عمق الجراحات وجسامة الخسارات، بل ومراعاة لمشاعر الشعوب المنكوبة ولا سيما عوائل الشهداء والمفقودين، فشعارهم قلب صفحة بيضاء ناصعة بدل الاوراق الملوثة بالموت والبارود والدخان، بل والسعي حثيثاً لازالة مفردة "الحرب" المقيتة من قواميسهم، وفي شتى الوان الحياة.
اما نحن في العالم الثالث، والعربية منها، والعراق ليس بمنأى عن ذلك. لقد غادرتنا الاحلام الوردية والرمادية معاً، وحلّ محلها وعلى مضض الكوابيس المرعبة؛ فمرة في الدوائر الحزبية والتحقيقات الامنية وثانية في صالات التعذيب الوحشية، وثالثة في جبهات القتال أو في المعسكرات الهمجية، وربما عند الحدود باوراق مزورة في هجرة قسرية.
نعرّج على "سارين" مرة، وثانية، وعاشرة، لأنها تكررت وتكررت البارحة واليوم، وتتكرر، للاسف، غداً، حصل في جبهات القتال في الحروب العبثية، وفي الاهوار، وكارثة الكوارث مأساة حلبچة الشهيدة في 1988، برعاية مهندس الموت "علي كيمياوي" ومؤازرة "القائد الضرورة".
لسنا بصدد الكتابة عن الحروب وويلاتها او عن اسلحة الدمار سواء مشروعها وممنوعها، ولا عن الضحايا وفجاعتها، لكن بيت القصيد قصيدة شعبية للشاعر "نجم خطاوي" والموسومة "سارين" المنشورة في صفحة -أدب شعبي- لجريدتنا الأثيرة "طريق الشعب"وبعددها 18 في سنتها 79 وليوم الخميس المصادف 29 آب 2013 وعلى الصفحة السابعة.
هنا استميح الاساتذة الكرام والقراء الاعزاء عذراً فبودي أن أتحدث قليلاً عن صاحب الأثر، على الرغم وكما يقول أساتذة النقد أن الحاجة اليه قد انتفت بمجرد ايصال نصه الى المتلقي، نعم وكاتب هذه الرؤية المتواضعة، هو الآخر يبصم بالعشرة على صحة الرأي وصواب المعلومة ولكن للضرورة احكام، بل وكما تشير "الميثولوجيا" الاجتماعية "الكفر في محله عبادة".
نعم المبدع كاتب النص الشعري من مدينة كاتب هذه السطور "الكوت" هاجر قسراً، وبعد ان حمل السلاح ضد حكم الطغاة ردحاً، واستقر به مقام زورق الأيام في "السويد" ونطلع على نشاطاته على طول وعرض بلد المهجر ولا سيما مدينة "مالمو" الجنوبية.
عرفناه اديباً ينظم الشعر ويترجمه احياناً الى العربية من لغات اوربا ولا سيما بلد المهجر، وتصلنا كتاباته المختلفة وتغطياته لانواع مختلفة لانشطة المجتمع المدني العراقي في الخارج، اجل يكتب الشعر "الفصيح" ولم اطلع على نتاج له شعبياً.
هكذا هو صاحب الأثر لم يبتعد عن مدينة "الكوت" جذوره تمتد عميقاً مع جذور نخيل بستان "حجي حسن" واصابعه تغوص في رمال محلة الانوار تحت جسر "أم حلانة" يعبئ رئتيه من نسيم سدة الكوت ويروي ظمأه من تحتها من عذب دجلة الخالد.
قصيدة "سارين" تتألف من قرابة "الثلاثين" سطراً وهي قصيرة الايقاعات، متقاربة التفعيلات 3-5 ومع حداثتها فانها امتلكت الموسيقى والشد الجماهيري- العمودي والافقي معاً، وهذه سمة مميزة للشعر الشعبي، وحسبي هذه القصيدة لو اطلعت عليها الشاعرة الناقدة الراحلة الدكتورة نازك الملائكة كما سبق لها الاعجاب برائد الحداثة "محمد الماغوط" مع خلو شعره من القافية والروي وكان بدعة تجاوز ضروب العمودي والتفعيلة. كما اتسمت القصيدة بلغة سليمة وصياغة سلسة وسرني جداً خلوها من الهفوات التي يزخر بها وللاسف الشعر الشعبي لاعتقادهم انهم بمنأى عن أئمة اللغة واقلام الناقدين. كما ان الشاعر قد اضاف للشعر الشعبي اضافة لغوية جديدة وعاشقة مع الشعر الفصيح فكانت القصيدة "سارين" وليداً شرعياً سليماً يحمل اصالة الاخوال وعراقة الاعمام، ويرى القارئ انها مكتوبة باللغة الثالثة "لغة المثقفين" لكن لماذا كتبها؛ الجواب هو سر وجود هذا اللون الأدبي "الشعبي" وحسب الشاعر فان المفردة الشعبية هنا كانت هي الأدق وهي الترجمة الحرفية الدقيقة لما اراد الشاعر البوح به.
مهد الشاعر قصيدته بالعبارة: "وهم يكرروها ثانية "غوطة سوريا" كما ذيلّ قصيدته بمفردة "ستوكهولم" وبالتاريخ 24 آب 2013، لله درك يا خطاوي كم هو حجم قلبك وما مدى بصرك وعلى البعد البعيد قلبك ينبض مع قلوبنا وتذرف الدمع سخياً مع عيوننا، وترفض الظلم، وتمقت الحرب، وتفكر كما نفكر نحن لان سلاحنا حب الناس، وهذا همنا كلنا.
سارين /مرة وبعد/ تنعاد المآسي/ والمآتم والمهازل- هي السطور الاربعة الاولى من النص، وهي لا ريب اننا تقيأنا المرارة والدمار ولسنا بحاجة الى ليل مظلم طويل، اننا نتحرق شوقاً الى اشراقة شمس الى اطلالة النهار. لماذا تتكرر المرات؛ مرارات ومرارات، المآسي كسباق بريد من الاجداد ليد الآباء، لجيلنا نحن الابناء "كلنا قتلة وايامنا كربلاء- نزار قباني".
مفردة سارين تكررت في القصيدة لـ"تسع" مرات واصبحت لازمة تأتي بعد كل مقطع 2-5 سطر، فالشاعر يحذر الشعوب ويناشد الضمائر، وهذا التكرار وبصوت عال لان الأذان بها صمم والعيون بها عمى، والا ما جدوى الاصرار والتكرار.
تجدد حلبجة/ بكل صراخ اطفالها/ وحزن المنازل- النص يترجم ان الصراخ متواصل وبعد خمس عشرة سنة على ماساة حلبچة واختلط صراخ اطفال غوطة سوريا مع صراخ اطفال حلبچة كردستان العراق، ويضيف الشاعر جسامة الكارثة قد أنسنت الجمادات فنطقت المنازل وذرفت الدموع حزناً على اهلها، على تضاريسها أي هول هذا الهول؟!
مخنو;ة المدينه/ استنشقت سم القتل/ وانتشه القاتل- النص العجب العجاب، هنالك صنف من "البشر" الوحشي يبني سعادته على دماء وصراخ وموت ابناء جلدته، لا ريب الوحوش في الغابات تستحي وترفض المقارنة به.
خلوا الغوطه تحچي/ عن ترفهه/ عن دمعهه/ عن جهنم ليلها/ ابوسط القنابل- النص لا ريب يا سيدي الشاعر قد سمعنا ورأينا وحزّنا لاجل حلبچة فالدم واحد اختلط مع دماء غوطة سوريا، والجاني واحد ايضاً -ظلمة الشام تنحب- عبارة من النص، النحيب متواصل في الشام وحلبچة وفي كل مدينة عراقية وبعض المدن العربية.
وسط الصمت/ تمشي جموعنه/ وخرسه المشاعل- النص يوثق المدرسة الواقعية النقدية وتضع السبيل الى الواقعية الاشتراكية- نامي جياع الشعب نامي- الجواهري.
يختتم الشاعر القصيدة بالسطر الثلاثين فارغاً الا من النقاط التي توحي بالكثير انه لم يكمل ما يريد قوله وهو الأمرُّ والأدهى، وفضل الصمت البليغ.