ادب وفن

ناظم رمزي .. ذكريات ومواقف ومعاناة.. / جاسم المطير

انتهى زمان الليل والنهار في حياة الفنان ناظم رمزي برحيله الأبدي يوم 8/9/2013 . مات في لندن واستقبلته راقدا أبدياً تربة مقبرة انكليزية قريبة من بيته. عن هذه المحنة أحاول أن أقدم للقارئ العراقي أفكاراً عامة عن بعض مواقف الفنان ناظم رمزي وعن بعض ذكرياتي معه، وعن الصلة بين أرض الرافدين التي وُلد فيها تلتهمها نيران الظلم النهمة وأرض التايمس التي توسدها في النهاية وعلى جوانبها الحرية المشمسة. حتى تلك اللحظة التي صار فيها ثمة تشييع لجثمانه تتواصل ذكريات أصدقائه عنه مواصلين رؤية فنه حياً في غمار الموت في ساحة الغربة .

حملتْ عروقي طيلة أربعة عقود من الزمان ذكرياتي عن علاقتي مع صديق ما وجدته يطلق كلمة ذم أو طعن بأي صديق من أصدقائه، ولم أجد عنده طبيعة خشنة رغم ما كان يحيط به من أشواك في أغلب مراحل حياته الخصبة دائما بماء المطر الفني المنهمر. ينبض قلبه بالأسى والفرح وبالآمال التي تجمعت حولها فعاليات شخصية، ملوّحة، ومكتشفة، مرحة، ومرحبة، موهوبة بعطاء فنون وعلاقات واسعة . عسى أن تساعدني شمس الحرية، والصدق والصداقة في كتابة مقالتي المختصرة عن نفسٍ نبيلةٍ ظلت تحيا في قلب الجمع العراقي، الفني والإنساني، العام والنخبوي.
سألقي بعض الضوء حول ثلاث قضايا أساسية جعلت من ناظم رمزي مغرماً بفن الرسم بالفرشاة ، ومقيما حول ماكينة طبع الكتب تعبيرا عن الرسم بالأخلاق :
1 - قضيته الفنية الإنسانية.
2 - حبه الشديد لوطنه وشعبه.
3 - إخلاصه في معاونة أصدقائه والعاملين معه.
بعض قطرات الكرم

كنتُ أفكر في كتابة هذا المقال قبل رحيله الأبدي، وقد كنتُ على اتصال تلفوني معه خلال السنوات الخمس عشرة الماضية لكي نتواصل، ثقافيا ووطنيا، ونحن في بلاد الغربة ، نتابع ظواهر وهموم الثقافة العراقية داخل العراق وخارجه ونتبادل - في حكايات تلفونية - الآراء السريعة حول مظاهرها الكبرى بعد انقطاع زياراتي إلى لندن، التي كان آخرها عام 2002 حيث قضينا نهاراً لندنياً، صحواً، جميلاً ، بصحبة الفنان فيصل لعيبي. تجوّلنا يومها - نحن الثلاثة - بعدة أماكن لندنية، جميلة فنونها وطيبة مناظرها . بدايتها كانت زيارة كَالري فيصل لعيبي في الطابق الأول من بناية تاريخية أوقفتها بلدية لندن لمجموعة من الرسامين الأجانب بينهم أثنان من العراقيين ليواصلوا عملهم الفني فيها. انتهت الجولة في ساعة أولى من الليل، بدعوة كريمة من ناظم رمزي لتناول طعام العشاء في مطعم إيراني افتتح حديثا خارج لندن بديكور جميل وبنقوش فارسية أغرانا ناظم رمزي بكباب هذا المطعم وتكته كان قد جربهما وتذوقهما في يوم سابق. حال دخولنا إلى المطعم اصدر أمره إلى النادل بعزمنا على تناول كباب الغنم وتكة الدجاج، لكنه أغرق المائدة بعدة أصناف من الطعام الإيراني، الرز المكشمش والمزعفر وإلى جانبه الفسنجون والقيمة ومرقة الباذنجان وبأنواع من الشراب، كعادته، ضمن تقاليد كرمه غير المحدود للتفنن حتى في موائد الطعام كي تلج الوجبة إلى ذاكرة من يتناولها معه ، تماما مثلما تفنن في إخراج كتبه (العراق: الأرض والناس) و( من الذاكرة ) و (لقطات فوتوغرافية لبعض ملامح الحياة العراقية في القرن العشرين ) و (جولتي مع الكاميرا) كي تبقى محتوياتها في ذاكرة قرائها . كانت جميع كتبه المطبوعة قد حملت رغبته الشديدة للمساهمة في تنمية وتعلية الذوق العام والخاص في عالم الفوتوغراف و الفنون التشكيلية.

إحساس بالحب والموت

في الأسابيع الثلاثة السابقة لرحيله كنتُ أحاول التحدث معه تلفونيا فقد انتابني إحساس غريب بأن الحياة تريد أن توصد أبوابها أمامه. كانت زوجته العزيزة (أم خالد) التي عرفتها ليست مليحة الوجه وجميلة الصورة حسب، بل عاقلة كملاك بأجنحة زرقاء، مدبرة ومغرمة به، ذات رسالة فذة في مساعدته بكل حركة لكي يحافظ على قدراته الفنية والأدبية جميعها. كانت تردّ على تلفوناتي خلافاً لعادته في المرات السابقة حيث هو أول من يرفع سمّاعة المكالمة وتخبرني في كل مرة من المرات الأخيرة أنه لا (يستطيع الكلام ..) لشدة مرضه ولا (يستطيع المشي..) من غرفة منامه إلى الصالة حيث موقع التلفون الأرضي. قلتُ لنفسي بعد عدة مرات من مكالماتي التي لا يرد عليها ربما أن الضياء يريد أن ينقطع عن وجه ناظم رمزي. لكن أم خالد أخبرتني في المرة الأخيرة ـ قبل يومين من رحيله - أنه يريد الكلام معك. نهض من فراشه وتوجه نحو التلفون وأمسك بسماعته.. سمعتُ صوته وصوت تنهدات رئتيه يصعقني، محاولا النطق ولو بكلمة (أهلاً) فقط، لكنه لم يكن قادرا على نطق أي حرف. كان عقلي في تلك اللحظة قد أوشك أن يدرك أن رحيل ناظم رمزي قادم سريعاً لا محالة.. يا للفاجعة ..! عرفتُ من صوته غير الناطق في تلك اللحظة انه لن ينجو من قافلة الرحيل الأبدي رغم ثقتي انه كــ( إنسان وفنان) ينتمي للحاضر والمستقبل وأن ضياء فنه سيبقى طويلاً حتى ولو غاب صوته عنا.
طيلة فترة صداقتي معه منذ 1969 حتى آخر حياته لم أجده غير إنسان متواضع يحب جميع الناس ولا يكره إنساناً، حتى من المسيئين إليه. كان فنانا حقيقيا في إرضاء جميع أصدقائه ومعارفه، خاصة من أولئك الذين يعانون الظلم والاضطهاد بأنواعه. لم يكن بأي حال ذا مسلك ارستقراطي نظراً لوجوده طبقيا - ضمن عالم الرأسمالية باعتباره (مالك) مطبعة كبيرة متجددة دوما حتى غدت من أكبر وأرقى مطابع العراق والشرق الأوسط. ظل صديقاً مُعـِيناً لجميع العمال العاملين في مطبعته و لأصدقائه الفقراء. اسقط من أعماقه كل صفة من صفات الرأسماليين وجشعهم، إذ ظل طوال حياته صادقا في حديثه عن داء الفقر ووقوفه إلى جانب الكادحين والفقراء. لا يفتأ عن مساعدة المحتاجين من أصدقائه خصوصاً. كنت أرى وأتحسس حجم علاقاته وأهميتها مع (عمال المطبعة) أولاً من دون أي تمييز طبقي أو استعلاء . قامت تفاصيل تلك العلاقة المنطلقة من فكرته أن الفن هو نوع من أنواع الشغف الشخصي بلقاء الناس والمجتمع على أساس المبادئ التي حملها قلبه الطيب المستمد من فنون دوستيفسكي ومن عواطف تولستوي متأثراً بهما بعد قراءته لبعض أعمالهما..

روح ناظم رمزي مع الجميع

من باب الوفاء لناظم رمزي وجدتُ صوراً قلمية كتبها عنه الشيوعي (عدنان اللبان) في كتابه (صفحات أنصارية) الصادر عن (دار العالم للطباعة والنشر عام 2012 ). كان ناظم رمزي حريصاً أن يكون (واحداً) من (المجموع). كل من يعمل معه يشكل بنظره جزءا من (المجموع) وهو مطمئن لنجاح عمل مؤسسته بعد أن تشبّع جميع العاملين فيها بروحية الإخلاص للعمل و لوحدة الإنتاج. لا أشك أن رمزي كان على علم بشيوعية عدنان اللبان وأنه مطارد من قبل بوليس صدام حسين تاركاً مهنة التدريس في الكوت متوجهاً للعمل في مطبعة رمزي بترشيح من صديقه الفنان النحات مكي حسين ، الذي كان يعمل مسؤولا (تنفيذياً) في المطبعة يعتمد عليه ناظم رمزي مثلما يعتمد على إدارة وتنظيم الشؤون المالية القانونية على جهود مهدي علي زيني.
كان عدنان اللبان قد وجد في (مطبعة رمزي) شيوعيين آخرين لا تختلف وضعيتهم عنه، من ضمنهم العامل (شلال) الذي كان طالبا في المرحلة الجامعية الأخيرة حيث يدرس الهندسة التكنولوجية، لكن سلطات الأمن تطارده. كما وجد العامل (عبد الزهرة) مختبئاً في مطبعة رمزي عاملا فيها بعد اضطراره لترك عمله في دار الرواد مطبعة الحزب الشيوعي - حين وجد له مكاناً لدى قلب ناظم رمزي في مطبعته . حين اضطر عدنان اللبان لمغادرة العمل في مطبعة رمزي بعد انكشاف أمره من قبل أجهزة الأمن عام 1978 ظل راتبه مستمراً بأمرٍ من ناظم رمزي صاحب المطبعة. كان راتبه يصل إلى عائلته بواسطة الفنان مكي حسين ، طيلة ستة شهور بعد انفكاكه من المطبعة ، لحين حصوله على عمل جديد.
الفنان ناظم رمزي يعتقد أن وفرة الترحال والعلاقة مع الفقراء توّلد الفن الحقيقي، وقد صوّر هذا الاعتقاد بكتابه الفوتوغرافي (الأرض والناس) الذي أسس لديه نداءً باطنياً سعى وراءه ، طيلة حياته عبرَ ترحاله الفني بمناطق متعددة من بغداد والعراق كله . وقد تشكلت خلفيته الثقافية والفنية من هذه الفكرة التي ظلت وراء حماسته المذهلة في العمل حتى أنني ما وجدته في أي يوم جالساً على كرسي إلا ما ندر.. يعمل واقفاً .. يفكر واقفاً.. يأكل واقفاً .. يتحدث إلى زائريه واقفاً. كان قلقا على الدوام، يعمل سريعا، ينتج سريعا، يفكر سريعا، لكنه يتخذ قراره بتأن . حين اعتقل بتهمة ظالمة في عام 69 كانت نتيجتها اشتداد حاسة (الحذر) في علاقاته الإنسانية. كما ظل (الخوف) يتنازعه ، خاصة حين اشتد بأس السلطة البعثية التي (اغتالت) أبناءها وقادتها وأعضاء حزبها بمختلف اشكال التآمر على نفسها وكيانها مما كان يمهد لاحتمال اغتيال الشعب العراقي في (الاهوار) و(الأنفال) و على جيرانه في إيران (أيلول 1980) والكويت (آب 1990 ) .

شيء من صفات رمزي

كنت مستغربا من شخصيته المتميزة، المحبة للفرح والنكتة والتعليقات السياسية القصيرة اللاذعة. يمارس، في أوقات فراغه، هواية الرسم مبتسما لا متجهما، يصمم وهو يمزح، يمارس فنه في التصوير الفوتوغرافي وهو يبحث عن نكتة، يمارس التصوير الطباعي وهو يدندن بأغنية من أغاني محمد عبد الوهاب أو فيروز. كان عمله في المطبعة فريداً في نوعه فأقرب العاملين إليه العامل (مريوش) لم يمنعه من صحبته لقردٍ صغيرٍ أصبح يداوم معه في المطبعة حيث يُدخل السرور إلى جميع العاملين فيها طيلة ساعات العمل. كانت العلاقة بين ناظم رمزي ومريوش لا إعياء فيها لأي واحد منهما. رمزي يحب مريوش ومعجب بعمله الطباعي خاصة التصوير الطباعي، ومريوش يبدع بكامل عمله داخل المطبعة بروح الحب والغبطة أيضاً . ليس بينهما عتمة ولا فراغ، بل علاقتهما قامت على ثقة الأول بالثاني وبقدرته وموهبته الفنية، وكان صبر الثاني دائماً وطويلاً ليتعلم دروساً في الفن الطباعي من مواهب الأول..
كنت أرى لأول مرة في حياتي مدىً من السحر في علاقة عامل كادحٍ برأسمالي متوهج وقد أصبح (السلم الطبقي بين أصدقاء) أمراً ممكناً في عيني بعد أن كانت قراءاتي الروائية تبرهن على خشونة العلاقة الطبقية بين (العامل) و(صاحب العمل) حتى أن هذا (العامل) أصبح (مالكاً) لمطبعةٍ ، في الثمانينيات، لم يجد بداً من تسميتها باسم (مطبعة رمزي) في البتاويين كي يظل اسماهما مترابطين حتى في حالة خروج مريوش من مطبعة رمزي أو بعد انتقال ناظم رمزي إلى لندن . بهذه الخطوة البسيطة صار بمقدور مريوش مواصلة وجوده وصداقته مع ناظم رمزي ، وقد أدركتْ آلهة الطباعة البغدادية في ذلك الوضع الفريد وفاء صداقة حقيقية كانت كياناً ملتفاً حول مهارة وكبرياء ناظم رمزي. لا بد من الاعتراف هنا ، أن أخلاقية ناظم رمزي أفادتني كثيراً حين تفرغت للعمل في حقل نشر الكتب وأصبحتُ مالكاً للدار العالمية للنشر والتوزيع ، حيث تعيّن عليّ الاستفادة من تجربة علاقته مع العاملين معه وكان قلبي مفتوحا على مصلحة وحقوق وصداقة العاملين معي حيث استفدت من فكرته في تسجيل عمال المكتبة العالمية في دائرة الضمان الاجتماعي لضمان التقاعد وقد نصحني رمزي نفسه بمقترح التأمين على حياة العاملين في شركة التأمين الوطنية وأخذتُ بالمقترح فعلاً ، كما استفدت من فكرة تناول الطعام المشترك ففعلتُ الشيء نفسه في مطعم مؤسستي .