ادب وفن

أبطال "زيد الشهيد" في متاهة / د. عزيز حسين الموسوي

أزمة المثقف
في مجمل رواياتٍ ثلاث "فراسخ لآهات تنتظر، افراس الاعوام، تراجيديا مدينة" من رواياته التسع يكشف زيد الشهيد عن أزمة عميقة في الثقافة العراقية، عكستها تلك الأزمات الحقيقية لدى المثقف، فقد عاش المثقف العراقي في ضيق واختناق وحرمان ولوعة كبيرة، انتهت – عند الشهيد - إلى حالات مؤلمة من الجزع واليأس والانتحار والموت والجنون أحياناً. لم يعرف الطريق إلى السعادة أو يسر العيش والأمان، بل عاش غريباً في وطنه وفي غيره، فقيراً، مهمَّشاً، مُستهدَفاً من السلطة بألوانها كلها، وحاول الشهيد كشف تفصيلات أزمة المثقف وحيثياتها، ونقلها في صورة أدبية فنية عالية، جعلته يحمل مشروعاً كبيراً في الإنسانية وفي الدفاع عن المثقف وعرض أزمته، وكشف معاناته الدائمة، التي انتقل بها بين اليأس والفقر والفراق والحبس والجنون والموت.
كما نجح الشهيد، في إبعاد أبطاله المثقفين عن إي انتماء وايدلوجيا غير إنسانية، تتيح لهم الانتفاع بالسلطة والمجتمع، وتبعدهم عن الواقع القاسي الفقير المحروم، وعن الناس. أبطال الشهيد - من المثقفين- منكسرون غير منتمين، انتهت بهم الأزمة إلى الجنون أو الضياع أو الانتحار والموت، أكثرهم هو اللا منتمي، وهو "ليس مجنوناً.. انه فقط أكثر حساسية من أولئك المتفائلين صحيحي العقول"، وقد جرب المثقف في روايات الشهيد إن الانكسارات لن تنتهي، والأزمات مستمرة مع عمره وعمر الوطن و" لن ينتهي الشقاء"، في دورة حياة متجددة مع الضغط والبؤس والعنف.
عاش بطل رواية تراجيديا مدينة أزمة حقيقية، وهو المثقف المهم والبطل فيها، الرسام الموهوب، الذي واجه الاتهام الكبير، قَتْلُ الأبِ، ليعيش الحَيرة والعنف والإيذاء، بدافع سياسي مقيت نظمته السلطة للإطاحة بهذا المثقف المتفرد، ألقتْ به في السجن، ليعيش دوامة كبرى، " حادثة القتل المريع والاتهام الباطل عكَّرتا مزاج الناس"، "على أية حال، وضع يوسف في غرفة منفرداً... انهالا عليه بالصفعات واللكمات، ثم استعانا بالهراوات تغذي جسده بالألم"، ليستمر الاتهام والتعنيف والإيذاء لهذا المثقف الفذ، ليوصله إلى حالة في الأزمة صعبة جداً، وضع فيها المثقف تحت العنف الشديد، ونال معاملة قاسية جداً، لينتهي به المطاف إلى الضياع وفقدان العقل، " أين منك يوسف في هذه الصورة، ويطالع صورة يوسف المهندم، لماذا وصلت إلى هذا الدرك من ضياع العقل... لعن الله من تسبب بانحدارك وجعلك رقماً كالأرقام الآدمية الدابة على ارض هذه المدينة وهذا البلد"، انتهى به العذاب إلى الضياع وفقدان العقل وكثير من إنسانيته التي كانت تميزه، فهو المثقف المستنير، بعد أن عاش أزمته العميقة مع السلطة وعنفها وجبروتها.
ومثل يوسف كان جعفر، بطل رواية أفراس الأعوام، المثقف الفنان التشكيلي الخطير، مرَّ بالأزمة ذاتها، من انهيار حبه الكبير، إلى علاقته المتوترة بالسلطة، الحالات التي انتهت باتهامه بالجنون، "الناس تبالغ فتنقل إليك خبر جنونه. هذا هو ابننا بيننا فلماذا لا نكتشف هذا الجنون؟ يرد بانفعال: الناس لا تكذب ولا تبالغ. ترك المحل ولم يعد يأتيني ليساعدني. لا ادري أين يذهب"، هذا كلام أبيه فيه، وكلام الناس جميعاً، إذ صار جعفر، الفنان، يهيم على وجهه بلا عقل يعود به إلى حالِهِ الحَسن الأصيل، انتهت به الأزمة العميقة إلى هجرته الفن والثقافة والحب " – كيف هو الرسم؟
– لم يعد الرسم يهمني. . لقد انتهى كل شيء... فاه جعفر متألماً"، لتنتهي به الحالة المرتبكة إلى أزمة حقيقية عميقة تهدد وجوده، غادرت به فنه الواعي الكبير.
أما بطل رواية فراسخ لآهات تنتظر، فقد عاش أزمة متشعبة الاتجاهات، عميقة أيضا، أزمة مع السلطة أفقدته الأمان والوطن والحبيبة، وجعلت منه مهاجراً في بلاد الله الواسعة، يركض وراء حلمه الكبير، يقول: " اخرج إلى الشوارع فاصرف الساعات؛ ولا احصد من يقين الإدراك سوى شوك الخيبة".
كان في أزمة روحية خانقة، يهيم على وجهه، رافقته في مراحل حياته كلها، يقول: " وأعود إلى ملاذي الكئيب موشحاً بوشاح الخيبة ومُلاحَقاً بهتاف الخذلان فأبصر نزلاء جدد اتخذوا أسرة نزلاء آخرين غادروا، آخرون غادروا إما إلى حضن الزنزانة المهولة، العراق، أو إلى فم التيه المشرع الأشداق، الضياع". لتكون الرواية كلها رحلة للبطل الشاعر المثقف الأصيل مع الأزمة والضياع والاغتراب والترحال، يكشف من خلالها الشهيد، ومن خلال غيرها، تلك الأزمة الإنسانية العميقة، التي عاشها المثقف في همومه وعزلته واغترابه، وفي علاقته بالسلطة وعنفها وتعذيبها وسجونها، وحبه الضائع الحزين، احتفاءً بإنسانية المثقف، وكشفاً لازمته ومعاناته الإنسانية الكبيرة.
الاحتفاء برموز الثقافة
قامت روايات الشهيد على ثيمة جوهرية مهيمنة فيها، وهي أنها تقوم على الاحتفاء بالثقافة في تفصيلاتها كلها، ولاسيما في ادوار الشخصيات البطلة في الروايات، إذ كشفت العناية بتقديم الأشخاص المحوريين في الروايات وجود صراع كبير بين جهتين في الحياة، المثقف من جهة والسلطة ومصاحباتها من جهة اخرى، ظل المثقف - فيه – متسيداً المشهد السردي والصراع، في ثباته على إنسانيته الحقيقية العميقة، على الرغم من انكساره المادي.
تعددت طرائق توظيف الشخصية المثقفة وأنواعها في روايات الشهيد، منها المقدسة ومنها المثقفة العربية التراثية ومنها المثقفة الغربية، كانت الشخصيات التراثية العربية شخصيات محورية امتدت على طول الرواية والى أكثر من رواية عنده، من الشخصيات العربية المثقفة المحورية ابن خلدون وعلي الوردي، فابن خلدون له حضور مركزي كبير في وعي الشهيد الروائي، جعله مرتَكَزَاً مهماً فيهاً، استدعاها كثيراً، وأسس عليها أفكاراً متعددة، يقول: " يريد التعمق في العلائق الاجتماعية وحياة البشر... يريد التعمق في رؤى ابن خلدون ومقدمته. الدراسات التي تناولتها واهتمام الغرب بها وبه كعالم اجتماع سبق عصره"، على هذه الشاكلة، تكرر توظيف ابن خلدون في هذه الرواية، وكشف الروائي عن اعتزاز وإعجاب كبيرين بهذه الشخصية العربية الكبيرة، ينمُّ عن اقتناع بها وبمشروعها الثقافي الكبير، وقد ربطها بشخصية ثقافية اخرى، مهمة في تاريخ العراق الثقافي والفكري، هي شخصية الدكتور علي الوردي، يأتي استدعاء الشخصيتين متقارباً وربما متداخلاً، يقول: " لقد شدَّ الدكتور علي الوردي، أستاذه في قسم الاجتماع، على يده إذ وجد فيه طالباً قادراً. .. ابتسم له الدكتور الوردي وردَّد:" زياراتك لابن خلدون ومقدمته مثمرة.. أنا مثلك، وقبلك فتح ابن خلدون باب المقدمة حين نقرت عليها نقرة واحدة.". . كان الرجل عالم اجتماع فلتة". اعتنى بتقديم شخصية الوردي عنايته بابن خلدون، وقدمه بصورة عالم الاجتماع الخطير الذي قدم قراءة معمقة في المجتمع العراقي وخصائصه.
ثم استدعى شخصيات ثقافية غربية مهمة، تمثل أيقونات في الثقافة الغربية والعالمية، منها الشعرية والأدبية والفكرية، عزز بها – الروائي- احتفاله بالشخصية المثقفة وبالإنسان على وجه عام، في انجاز بعد إنساني ثقافي ينداح إلى العالمية ويفارق المحلية، يقدم فيه الروائي صورةً بَينةً عن وعيه الثقافي الواسع، يقول: " كان شاباً متفتحاً... فيه نزعات من "بوشكين" شاعر روسيا الذي حفظ شعره وطفق يردده بين جموع الواثقين. كان يقول : "أنا بوشكين!" فتشاكسه بالقول: " ومن أين لك نتاليا كونتشروفا؟ "فيجيب" سأخلقها... لم يدعوه يكمل حلمه. قتلوه كما قتلوا "لوركا". هل تحب لوركا؟"، إدخال "بوشكين ولوركا"، هذين الشخصيتين الكبيرتين عالميةً وثقافةً في النص الروائي، أعطاه بعداً آخر في الدلالة، ونقله إلى منطقة فيها الأفق الأوسع في الاحتفاء بالآخر الثقافي العالمي والإنساني، متشاركاً معها في الأزمة الحضارية والسعي الإنساني، واستمر في استدعاء تلك الشخصيات الثقافية الكبيرة، مستثمراً ما توفره الإحالات عليها من انفتاح في المعنى كبير، يقول:" كانت الأعوام الوسطى من السبعينات لقاءات حفاوتنا. أنا، وعبد الرحمن، وكمال وشلة من الشباب الخارجين من بيضة المراهقة. نعوم على طفو قراءات هيمنت فيها أفكار "كولن ولسن" و"البير كامو" و"جون بول سارتر" المنفلتة من عقال الالتزام، والرافضة وجوداً يعج بالمقيدات"، هذه الشخصيات الأدبية والفلسفية العالمية تثري النص الروائي روحاً ومعنى، وتجعله غنياً بشحنة الثقافة الإنسانية الكبيرة، والتأسيس الفلسفي والثقافي المنفتح على أبعاد تتجاوز المحلية وتحتفي بالإنسان بإنسانيته المجردة.
ثم احتفى الشهيد بشخصيات إنسانية مهمة في الثقافة العراقية، لها السمة الإنسانية والحضور الشعبي الواسع، هم فنانون معرفون عند عامة الشعب، وشعراء شعبيون لهم امتداد شهرتهم، احتفى الشهيد بهم إنسانياً، وكرس الثقافة التي أشاعوها، فقد طرح رموز الغناء العراقي الشعبي، من ناظم الغزالي وناصر حكيم وسعدي الحلي، وشعراء من أمثال الملا عبود الكرخي وسواه، وهذه الشخصيات لها صورة مشرقة في الذاكرة الشعبية وقرب من الوجدان العراقي، يقول: " يقف ناصر حكيم بعقال ثخين ويشماغ بالأبيض والأسود... بين لحظة واخرى يعدِّل ناصر حكيم عباءته الحنيِّة اللون النازلة على كتفيه هبوطاً على الأرض".
ركز على كشف المرجعية الثقافية الشعبية للفنان، وجماهيريته ومحبة الناس له، وكشف عن أهمية اجتماعية كبيرة للفنان في ذلك الزمن، وحضوره الواسع بين الناس، يقول – كذلك – : " يتذكر سعدي الحلي الذي جاء في أواخر الخمسينات يلبي دعوة نقلها له شرطي من مدينة الحلة. قال له: جمهور كبير من شباب السماوة يعشقون طريقتك في الغناء ويهيمون على وقع صوتك وكلمات أغانيك".
أشاع الشهيد تلك الأسماء الفنية المهمة في الثقافة في محاولة لتكريس النزعة الإنسانية في الفن الشعبي المجتمعي، في توظيف فني متفرد، استلهم فيه الشهيد تجارب فنية وثقافية وأدبية عربية وعالمية مهمة، انتقل معها – موفقاً - بين المحلي والعالمي.
* مقطع من بحث مطول.