ادب وفن

القراءة بعينين مغمضتين قراءة لـ "جسد في مقهى شرقي" / حميد حسن جعفر

هل من الممكن أن يعيد القارئ تركيب ارتباكات اللغة على يد الشاعر؟ وفوضى القصيدة ليجدها عند جادة الصواب كما يقال! ما الذي تفتقد القصيدة حين يضاف إليها شيء من العقلانية؟ ما الذي تخسره حين تحجمها القوانين والأنظمة، قوانين الكتابة، و انظمة القراءة؟
هل تحافظ على صيرورتها؟ أم تضحي بتجربتها، و جماليات الشعر حين تترك جسدها تحت سؤال القناعة!
زهير بهنام بردى يمنح القصيدة، النص الكثير من الحريات، اقترابا من الانفلات، حتى يتخيل القارئ أن الشاعر لا يجيد كتابة عبارة شعرية، وأن الشاعر منقاد إلى سلطة النص، لا حول ولا قوة له في مواجهة الكتابة، وأن النص كائن مجنون، على الشاعر أن يهذبه، فإذا به يزيد عليه من عنده جنونا على جنون و على القارئ أن يؤدبه، وما بين القارئ والشاعر، والتهذيب والتأديب تتحول القصيدة إلى إعلان عن سلعة ما.
جماليات الشعر و القصيدة ليس في خضوعهما إلى قوانين العقل، بل في استجابتهما لأنظمة الحياة ذاتها، التي ترفض الظهور للإنسان المتكرر.
التكرار في القراءة و الكتابة فعل استنساخي، فعل إعادة، لا فعل خلق،
قد ينتج التكرار قراءة وكتابة شيئا من المتعة و لكن متعة كهذه ستكون متعة مشوهة،
ربما يشعر المرء بالأسف عند ملاحقتها أو متابعتها. المهم في الأمر أن الجديد كفعل لا يمكن أن يكون كالفعل المتكرر، وبالتالي لا بد لقصيدة ، زهير بهنام بردى ، أو لنصه من أن تكون محصنة ضد حالات الإعادة والتكرار، إلا ضمن الفعل الإبداعي، محصنة بما تمتلك من اتهامات القارئ لها بالفوضى والارتباك،
ولسوف تظل منتجة لمتعة الجمال، نصوص تتمتع بميزة التجدد الذاتي.
هل تكرر الطبيعة نفسها.. هل يكرر الكائن البشري ذاته. عبر لحظات الحياة التي تدوم لسنوات طوال؟
القصيدة التي يكتبها زهير بهنام بردى هي كائن بشري على هيئة قصيدة، كتابة، بإمكانها أن تطلع على القارئ ومن خلال كل قراءة منفردة بحراك مختلف، و بأفعال متخيلة،
المخيلة مختبر لكيمياء القراءة والكتابة، لولاها لما تذوق الإنسان، الكائن البشري لحظات حياته.
لا أعتقد أن الحياة مهما طالت ، الحياة هنا الجمال بحد ذاته ،هي النسخة الوحيدة، الفريدة، التي نمارسها، أو يمارسها جميع القراء، الحراك لا ينتمي إلى البقاء الدائم الحراك يأخذ و يعطي يحذف و يضيف، الحراك يمحو و يكتب، الحراك هذا الذي يمنحنا القلق، او علة ممارسة القراءة والكتابة. الحراك، القصيدة، بعيدا عن التبرم والضجر، قريبا من اكتشاف الجمال الآخر المخبوء، الجمال كائن لا ينتمي إلى الظهور، القشور، بل هو المنتمي إلى البواطن، اللباب.
هل على القارئ أن يتابع الكتابة وفق ما تريد الكتابة ذاتها؟ أم وفق ما يريد هو؟ وأين مكان الشاعر من كل هذه الأمور؟
هل كان في حساباته، وحسابات الكتابة أن يضعا القارئ في زاوية ضيقة من اللهاث؟
لهاث القراءة يفقد القارئ القدرة على استيعاب الصور وسرعة تشكلها وانسحابها.
العبارات في معظم النصوص كائنات ضاجة بالحركة، الكل ، كلمات، عبارات ، صور، معان، أفكار، تخيلات ، تحاول أن تتقدم النص لتصل قبل غيرها إلى القارئ، والقارئ يدفع بكل ما لديه من إمكانات الاستقبال ليقبض بقوة على ارساليات الشاعر.
أنا متأكد تماما،- أن الشاعر زهير بهنام بردى ، شاعر ممتلئ بالاختلاف، بالرغبة بأن يقول ما لديه قبل أن تفر من بين يديه. ،
اللغة عصافير، و كائنات فيها من الابتكار ما يؤهلها لمزاحمة المألوف. و دفع المعتاد عليه إلى خارج التجربة.
في الكثير من النصوص يحاول الشاعر أن يحاذي اللغة ليكتشف تقلباتها لا يريد أن تسبق ما لديه من طموحات و مقترحات في تحويلها إلى ما ينتمي إلى الشعر، فاللغة ليست هي الشعر حتما اللغة كائن ينتمي إلى كل القدرات على التواصل من هواجس وأحاسيس وحدس، وتوقع اللا متوقع، من إشارات وإيحاءات ومتغيرات.
اللغة كائن أن لم يستطع الشاعر ان يمسك بها، أن يشعرها بقدراته على استنطاقها، واستضافتها إلى بيته الشعري، فإنها سوف تجافيه، بعيدا عن الانضمام إلى القواميس و الكلمة معناها، فهي العشبة التي تنتمي إلى البقاء، بقاء اللغة حين تتحول إلى إشارات على صفحة بيضاء، أو حتى سوداء، وإلى ما يعانيه الشاعر في الكتابة عبر اللغة كذلك.
سوف يجد القارئ، المتابع نفسه محمولا على محمل المتابعة المتميزة، المتابعة التي لا تنتمي إلى الاستقرار، الشاعر يكتب حالات الانبهار والدهشة عبر "مائتين وواحد وتسعين نصا، كتابة".
هذه الحالات ما هي إلا مجموعة معمارات قد تنتهي إلى المتاهة، حيث يحاول القارئ أن يضع يديه على محتويات النص عبر فعل غير حكيم. متخليا عن مبدأ السياسة في تقريب النص من القارئ، او من اقتراب القارئ من النص.
هل من الممكن أن يغمض القارئ عينيه عندما يبدأ بالقراءة، لينفرد بالفعل التخيلي،
أعتقد كقارئ أن العميان وعبر طريقة ، بريل ، في القراءة بإمكانهم أن يفهموا النص، القصيدة بقوة، بشكل أفضل ممن يمتلكون عيونا، ولي عينان فقط، هل بإمكان القارئ أن ينتقل من الأبصار إلى العمى، ليتمكن من استقبال ارساليات الشاعر بردى.
جزء من هذه المحاولة، العمى هو التأني في الاستقبال، والتبصر بما يبث الشاعر والتأمل، وإعادة القراءة، واستحضار المقروء، ضمن حالة اغماض العينين وشيء الاتصال عن المرئي، الملموس. وتدوير النص، أو ما يتبقى من النص في فضاء ذهنية القارئ، و محاولة الوصول إلى ما يروم، يقصد الشاعر، أن تجربة كهذه أمر وارد و فعل قد يقوم به الكثير من القراء، والدخول في حالة استقراء لا يمكن أن تتوفر خارج حالة العمى.
هذا الفعل قد ينتمي إلى نوع من المغامرة، فالقارئ لـ ، جسد في مقهى شرقي ، لا يسلك في استقباله طريقا مطروقا، بل شيئا من المتاهة، تلك التي تتشكل و تنمو و تكبر، و تضع يدها على القراءة.
كل هذا والقارئ قد نجده جالسا على كرسي أو ربما حالما بما يحلم به الشاعر نفسه.
******
زهير بهنام بردى يمسك بجسد اللغة لا من اجل تدمير الذائقة العامة للقارئ والقراءة، هذا الجسد المشاع، وحيث الفضاء الشرقي، و المكان العام، أو إلى الانغلاق، الشاعر يحاول أن يصنع منطقة، فضاء ثالثة بعيدا عن الوسطى، حيث تتشكل القصيدة ،الجملة، أو القصيدة العبارة، أو القصيدة الكلمة.
جسد الشاعر رغم مشاعيته يظل تابعا لخصوصية الشاعر الذي يستند إلى فكر ديني ينظر إلى الجسد وفق مفهوم ربما يكون مغايرا لمفهوم المتلقين، هذا الجسد الذي ما أن يمسسه الشاعر حتى يطلقه في فضاء القصيدة.
في نصوص جسد الشاعر لا وجود لنهايات الأشياء، لا موت لا إلغاء، انبعاث، الجميع يحيا سواء في فضاء القصيدة، أو في فضاء المقهى.
قد لا تكون اللغة متصالحة مع مفرداتها، إلا أنها تحاول أن تشكل قانونا يقف خارج الاتفاقات، القانون الذي يدمر نفسه بنفسه، ليولد من جديد بين اختلافات اللغة، هكذا يعمل الشاعر والقصيدة، وعلى القارئ أن يحذو حذو الآخرين. أي أن يدخل فضاء القصيدة ليذوب ، يتشظى بين وحداتها .و أما أن يضع نفسه تحت تصرف الشاعر ليتحول إلى ما يشبه الشاعر، قادر على ممارسة القراءة
بشكل مماثل للكتابة،
****
لا توقعات في كتابات بردى خزائن القارئ بكل محتوياتها التي اجتناها من قراءاته السابقة قد لا تجدي نفعا في صناعة إضافة إلى أي نص من النصوص، أو في صناعة قانون او نظام، أو مخطط، لفعل أو أفعال القارئ، لذلك سوف يكون القارئ في مواجهة "جسد في مقهى شرقي" ضمن مواجهة قد لا تكون متكافئة، وعليه أن يكون حذرا، قد يكون بحاجة إلى شيء من المراوغة أو المكر، لا مجال للتراجع أو الاستهانة بالقصيدة.
القصائد، النصوص ،الكتابات تلك، قد تبدو متوحشة، بدائية، فوضوية، مرتبكة، غير خاضعة لسوى قوانينها الخاصة بها التي من الممكن أن ينتجها المتلقي لحظة دخوله فضاء النص و ضمن قراءة وفق اغماض العينين، إلى فضاء جسد الشاعر المفترض ، ، القارئ لتلك النصوص "الجسد "على القارئ أن لا يجرد العنوان من رمزيته الطالعة من خلال الفكر الديني الذي يعتنقه الشاعر والشعائر الدينية التي تنتمي إليه من خلال الموت و الحياة و الانبعاث.
هذا القارئ سوف يجد أمامه الجسد، النصوص تتشكل من خلال كتلة كل منهما، من غير تفاصيل، ترقيم، لا نقطة، لا فارزة ،لا نقطتين وشارحة ،لا علامة تعجب، لا علامة استفهام، لا استدراك، لا حدود، بل سيجد جسدا ،كائنا شعريا متخليا عن جميع التحجيمات، إجراءات الكتابة، حتى يحسب القارئ أن هذه النصوص تتكون منسجمة واحدة طويلة.
إذا على هذا القارئ أن يعيد إلى هذه الجملة ترقيمها، أن يعيد تشكيل هذه الجملة التي امتلأت بالغرائب و الغرائبية، بالتصادمات و التناقضات، بعدم الاتفاقات، حتى يشعر قارئ كهذا انه في غابة، لم يدخلها مزارع أو سائح، أو قاطف ثمار، أو كائن مكتشف من قبل، وما استدل عليها حاطب ليل، غابة من يدخلها عليه أن يتأكد من مواقع قدميه ،أن يعاين ما فوق الأغصان وما تحتها، وما بين الاحراش، وما على الجذوع، وما تركت الكائنات التي استوطنتها قبل مجيئه.
القراءة لجسد ،زهير بهنام بردى ، الجالس في المقهى الشرقي ،هل هناك علاقة ما بين المقهى الشرقي و الكنيسة الشرقية وما بين جسد القصائد و جسد المسيح؟
الشاعر لا وسيلة بين يديه للاستنجاد بأي كائن آخر، ،و بقدر ما تمتلك القصيدة من غموض و ارتباك، ومن علامات متقاطعة، ومن محاولات الربط بين التفاصيل والمفاصل، فإنها لن تتخلى عن جماليات الأسماء والأفعال التي تقترن ببعضها لتنتج للقارئ الكثير من اللاواقع،
اللغة في ، جسد في مقهى شرقي ، تعمل على صناعة حركتها من خلال التخلي عما يحد من انطلاقها.
هل تشكل عملية الترقيم، إشارات البدء و التوقف و التعجب والاستفهام، أفعالا تحد من التدفق اللغوي، قد يكون التدفق في الكثير من الاحايين حالة ارتباك،
قد يشك القارئ الذي هو أنا و سواي في هذه اللحظة، لحظة القراءة، الاستقبال بقدرات القارئ الآخر ، فالتماثل في الاستعدادات ، لا على اللهاث من أجل متابعة تقلبات الكتابة، بل بقدراته على صناعة متخيلة يوازي تخيلات الشاعر.
آلاف الجمل القصيرة ،المتلاصقة ،المتتابعة ،المتنافرة ،المتناقضة المتوائمة، والتي تنتمي إلى اللا وجود لأي رابط ما بين السابق واللاحق، ما بين هذي المجموعة أو تلك،
هكذا هو العالم اللاواقع الذي يتشكل من أجل متابعة عالم لا واقعي ،يتشكل على أرض الواقع.
تناقضات الواقع المعيش، الحياة المكبلة بالأفعال الفاقدة مرجعياتها لا يمكن أن تنتج فعلا عقلانيا، يتمكن عبره الشاعر و القارئ أن يصنعا فعلا كتابيا ،وآخر قرائيا، يتمكنا من خلالهما إيقاف حركة المجهول، الذي يدير شؤون الحياة نفسها، لذلك لن يجد القارئ والشاعر من بد من أجل مواجهة لا عقلانية الواقع المعيش، بلاعقلانية الواقع المتخيل، لكي يقيما نوعا من التكافؤ في صناعة المعادلة الأكثر قدرة على إقناع المجهول، المنتج للفوضى، حيث يكف الواقع المعيش عن انتاج واقع كهذا، من الممكن تشكيل آخر محاذيا له.