ادب وفن

شكيب كاظم.. ناقداً ومحللاً / عبد الهادي الزعر

كم أكون سعيدا حين أقرأ شيئا لشكيب كاظم.. ثقافة موسوعية مزدانة بالغنى والعمق والصدق. منذ السبعينيات وأنا أتعقب ما ينشر. "زهد الدنيا ففضل الظل". لوامسه ومجساته تدب في كل الانحاء، تغوص في رحم النص، لا تدع شيئا إلا وتقلبه، ربما تجد فيه جمالا خفيا عن الانظار، أو معلومةٍ مستظرفةٍ انزوت ما بين السطور، أو شيء من بلاغةٍ أو مغايرةٍ اندست بين الثنايا.
منذ عقود مضت وشكيب ناقداً متناميا باطراد؛ مشغله النقدي لم يتوقف ولم يتباطأ، ولا يقتصر على جنس أدبى بعينه، فترى الرواية والقصة والبحث والفن والتراث هموما لا تفارق خاطره المشبع بالتقصي والتمحيص. ناقد غير هياب ولا متردد.
في معرض نقده لرواية "يوليسيس" لجيمس جويس التي أشيع عنها أنها ملحمة القرن العشرين، وهي في غاية الصعوبة، مداخيلها مستغلقة تبعث على اليأس والإحباط وانقطاع النفس.. يشيد بمترجمها البارع د. نيازي مصطفى وبقدرته الفائقة في اللغتين العربية والانكليزية فقد جاء في الاستهلال:"هذه الرواية الأعجوبة امتحانا لقدرتك على الصبر والجلد ومحكاً لأصغائك الكامل بكل الجوارح والحواس، انها بطيئة الوقع مثل مراقبتك نبتة وهى تنمو".
ويحذر القارئ، والحديث للمترجم:"لا تقرأها دفعةً واحدةً فتصاب بالتخمة، فالرواية شبيهة بمركبات الأدوية والاكثار منها يصيبك بالعطب وحين تقرأ مقطعا أعده أكثر من مرة لغرض استيعابك له وجب على قارئ يوليسيس الاطلاع على أوديسة هوميروس وعلى التوراة والإنجيل. وهنا لا بد أن نتوقف، فقد تفنن الغربيون في تسويق أفكارهم فهم يحيطوها بهالة من القدسية وبحزمٍ من الضوء الباهر، غايتهم "مغنطة" القارئ ويعلم الله كم سرد وبحث ونقد وتحقيق وتأليف لذوات عرب فاق ما تشدق به الاجانب ولكن الاعجاب به مؤجل الى حين!
لا ننكر أبداً أن صناعة الرواية غربي بامتياز وأنها بنت المدينة، فإذا كانت كل تلك المحاذير عن رواية، فكيف بنا ونحن نقرأ الفلسفة قديمها وحديثها أو نعوم في نظرية آينشتاين في البعد الرابع أو الكون الاحدب أو نظرية ستيفن هوكنغ في تمدد الزمن...
أتذكر حين ترجم رواية "الصخب والعنف" لفوكنر في سبعينيات القرن الماضي الى اللغة العربية كتب على صفحتها الأولى أطلب من البائع ملحقا يسهل لك الاستغلاق فتيار الوعى كان مستحدثا ولم يدركه القارئ العربي ثم أنه نشرها عام 1929 وأبتكر فيها اسلوبا جديدا لاقى استحسانا هائلا "في بلده" بسبب خيالها الجامح؛ حيث خلط الشعور باللاشعور والواقع بالمخيال ولم يراعى الزمن وخطواته الثقيلة ولو أنها وردت الينا متأخرة أربعين سنه من نشرها.
أول قاص عربي تأثر بفوكنر هو الراحل غسان كنفاني، عمل نفس الشيء في "عائد الى حيفا" لكونه معجبا به وبمارسيل بروست حد الوله، ويقال والعهدة على القائل ان فوكنر قرأ ماكبث لشكسبير وفيها مقطعا يقول:"ما الحياة الا ظل يمشي مثل مسكين يتبختر ويستشيط ساعة ملؤها الصخب والعنف" فسمى روايته عليها كما أنه اخترع لها مكانا خاصا بها "خارج الأطلس الجغرافي".
ورجوعاً إلى جويس فأن "عوليس" أو يولسيس هو ذلك المقاتل في حرب طروادة الذى عاد كل الجنود إلى بيوتهم إلا هو لم يعد الى إيثاكا وبقيت زوجته تنتظر.
طبعاً لم يتناول الأسطورة بنصها المتواتر بل ذهب الى "ظلها" وبنى عليه روايته، والرواية رفضت من عدة ناشرين في أول الامر لكونها انتقصت من الكنيسة وقد اعتمد التمويه والتعميه وتغليف نصوصها بالغموض والإيهام من أجل تمرير عمله الروائي فزمن بداية القرن العشرين غير زمننا هذا. وجويس له ثلاث روايات اتسمت بالاستغلاق جميعها.
وأقول الكتاب الايرلنديون أمثال جويس وبيكت وغيرهم لم تسطع نجوميتهم في دبلن بل في الشتات دائما مما حير الباحثين وأرهقهم، على سبيل المثال "في انتظار كودو" لبيكت كتبها في باريس وحاز بها على النوبل.
يقول شكيب:"ان جويس هومَ وأغربَ وأغمضَ القول كي يسرب معلوماته وسط كم من الضباب اللغوي، وجويس صب جام غضبه على اليهود قائلا: "إنكلترا بيد اليهود" وتحدث عن اليهودي التائه قائلا:"ان العداء الاوربي لليهود هو الذى دفعهم إلى انشاء وطن قومي لهم في فلسطين تخلصا من شرورهم".
وهذا النوع من الروايات يتصف زمنها بالتشظي والتراجع "فلاش باك" وبنائها الدرامي بالتعقيد فهي تحتاج الى صبر ومطاولة لم يألفها القارئ الا مؤخرا، لكونها حوت الكولاج والتداعي الحر والدايلوك والميتا قص.
الجميل في ناقدنا العراقي شكيب كاظم أنه تجنب الظهور في المنتديات الادبية كما عرف عنه الزهد والاباء والنبالة، فمرحى به وعمرا مديدا مزهوا بالأبداع.