ادب وفن

الرواية الصعبة / إسلام عادل

تنقلنا الروايات الى مستوى آخر من الوعي. تمحى الأحداث من ذاكرتنا, ربما, أو ننسى ما شعرنا به بعد الانتهاء منها, إلا أن شررها يومض في فكرنا و سلوكنا مادامت حياتنا الذهنية خالدة. تختلف الروايات بمقدار ونوعية التجربة التي تنقلها إلينا. فاتساع التجارب الإنسانية في العمل الروائي وعمقها هو الفاصل الوحيد بين الرواية "الجيدة" و الرواية "الفقيرة" اذا أمكن استخدام هاتين الصفتين لوصف عمل أدبي بأهمية و مكانة الرواية. فهل هناك رواية صعبة؟ صعوبة الرواية بطبيعة الحال نتاج عاملين: مستوى وعي القارئ كالعمر والعمر القرائي, وطبيعة الكتابة السردية كالتقنيات السردية, الثيمة والصنف الروائي.
تنبثق الرواية كتجربة حين تتكامل بتجارب القارئ الحياتية والفكرية. فكثيرا ما يتباهى البعض بقراءة رواية مثل "البؤساء" بسن صغير, فهذه الرواية التاريخية المتشابكة الأحداث, العميقة المعنى لا يمكن أن تكون ذكرى طفولة عابرة. فإعادة قراءتها ستكون تجربة ثانية عميقة ناضجة كاشفة لما لم تتوصل اليه قراءتها الأولى!
ان اتهام العمل الروائي بالصعوبة هو اتهام متزعزع, متقلب, متباين. فما يعتبر صعب لشريحة من القراء, ربما لا يكون كذلك لشريحة أخرى بسبب تأثير العامل الأول الخاص بثقافة القارئ ومستوى وعيه.
الوعي هو مفتاح الرواية, ففي الوقت الذي تعمل به على تشكيل رؤانا وانضاج تجاربنا وتقريبنا من الإنسان الورقي الآخر, فإنها في الوقت ذاته بحاجة الى وعي مسبق لتشرب ما تقدمه. فامتصاص أفكار الرواية و الوعي الذي تبثه علاقة متبادل. تقسم الرواية الصعبة حسب صنفها genre.
تمتاز بعض أصناف الرواية بدرجة من الصعوبة في حال انعدام القراءات المسبقة لصنف كهذا الذي يحدد الملامح الرئيسة والتي يفترض وجودها في العمل الأدبي ضمن إطار ذلك الصنف. فالرواية التاريخية تختلف عن الرواية القوطية مثلا, وبالتالي يندفع القارئ إلى إحداهما و يجد صعوبة في استساغة الاخرى. فينتج عن هذا التفضيل, صد لبعض الأصناف وتهافت على أصناف أخرى. نستعرض هنا ثلاثة اصناف روائية أرى أنها تتطلب قارئا أنضج مما تتطلبه الأصناف الأخرى:
الرواية التاريخية
ربما تكون الرواية التاريخية صعبة لشريحة من القراء نتيجة لثغراتهم الثقافية وغياب الحافز للعيش في الماضي السحيق. فهذا الصنف من الروايات يستند الى رغبة القارئ في عيش فترات تاريخية معينة, أو معرفة ما تنطوي عليه هذه الأحداث مصاغة بقالب إبداعي جمالي متفرد. خير مثال على رواية قدمت أحداثا تأريخية بقمة المتعة هي رواية "إسمي أحمر" لأورهان باموك والتي تناولت النقش العربي الإسلامي. ورواية "حدائق النور" لأمين معلوف التي تناولت سيرة مؤسس المانوية و رحلته الدينية و الروحانية. ورغم أن وضيفة الرواية هنا هي إذابة الصعوبة والتأطير الجمالي لفترات تاريخية كتلك, إلا إنها لا يمكن أن تقدم لجميع القراء. فهذه الروايات و إن لم تحتج لثقافة تاريخية مسبقة, فأنها تتطلب اهتماما ورغبة ذاتية ملحة لنزع جذورنا من هذا الواقع, والعيش في حقبة زمنية منكمشة بين صفحات كتاب. فهي تتطلب قارئا قديرا ينشد الهرب من عالمنا القلق, قادرا على أن يقفز الى الوراء. ولا يمكن الحديث عن الرواية التاريخية من غير الإشارة الى أعمال فيكتور هوغو العظيمة. فرواية "الرجل الضاحك" من الروايات التاريخية التي تتطلب قارئا واعيا صبورا, فعلاوة على خوضها في فترات تاريخية سحيقة في القدم, فإن امتداد الصراع وتعدد جوانبه جعلها في مقدمة الرواية الصعبة.
الواقعية السحرية
تختلف الواقعية السحرية عن الفنتازيا! هذا ما عرفته بعد تجربة مع هذا الصنف الأدبي, فهناك حد بين الفنتازيا في هاري بوتر وطريقة التعامل مع الخوارق في روايات ايزابيل الليندي وماركيز. فروايات الواقعية السحرية تجذب قراءً قادرين على لملمة جزيئاتها للوصول الى درجة المتعة التي تقدمها. فرواية "طبل الصفيح" لغونتر غراس تقف في مقدمة روايات الواقعية السحرية الصعبة. فأوسكار ليس مجرد قزم قادر على تحطيم الزجاج, فعلى امتداد ثلاثة كتب من السخرية, وجدت أنها رواية لا يمكن أن تهضم من القراءة الأولى. فهناك الكثير من الطبقات التي لا نلج اليها بسهولة. أنها رواية على درجة من الغنى و الغزارة يصعب فهمها من قارئ بتجربة أدبية متردية. أنها مثال للسرد المغلف بالسخرية بأحداث عابرة تردم ثقوبا مهمة في مجرى أحداث الرواية فتتطلب جهد تكديس الأحداث و الشخصيات و فهم ادورارها للوصول الى متعتها الفريدة. لا يختلف الأمر ايضا لمن قرأ ثلاثية إيزابيل الليندي "ابنة الحظ, صورة عتيقة, بيت الأرواح".
الديستوبيا
تكمن صعوبة روايات الديستوبيا في طبيعة العوالم البعيدة المعقدة التي تخلقها. فروايات مثل "1984" لجورج اورويل, "العقب الحديدية" لجاك لندن و"آلة الزمن" لويلز تبتعد عن العالم المادي الذي نحن فيه فهي تبني عالمها الروائي على أرض خربة هي نتاج ما نعيشه اليوم أو عشناه بالأمس القريب. فيداخل عالم روح الإنسان المضطربة و عالم السياسة المحطّم. رواية تمازج بين المعرفة العميقة و النظرة الثاقبة لكنها تحيد أحيانا عن خط المتعة! فبعض روايات الديستوبيا و رغم ما تمتاز به من عمق و حرفية, يتزعزع فيها خط الإمتاع. فتتطلب قارئا صبورا يدفع نفسه بين الصفحات! فضلا عن ثقافة مسبقة تعين في الدخول الى النص. فكيف ستفهم "العقب الحديدة" مثلا بدون فكرة مسبقة عن ماهية الاشتراكية! فهذه الروايات تحتاج الى أكثر من مجرد قراءة عابرة أو قارئ سطحي.
لا يحدد طول أو قصر الرواية بالضرورة كون الرواية صعبة, لكن من الممكن أن يكون الاستغراق في السرد المطول دليلا على عمل روائي غني وعميق. فالرواية الطويلة غالبا ما تتمحور حول مصائر شخصيات متصارعة وبتورطهم في مستويات مختلفة النضج والتطور. فرواية تاريخية قوطية غنية بالأحداث كـ "نوتردام باريس" للعظيم فيكتور هوغو والتي تمتد على تسعمائة صفحة تصور تجارب إنسانية فريدة, ليست بالسهلة على الأطلاق!