ادب وفن

«مقتل بائع الكتب» أنموذجا .. المعقول واللامعقول في القتل العراقي / داود سلمان الشويلي

"احتاج الى مغامرة وانجاز ملموس يبقى في الذاكرة.. الكتاب يبقى الف سنة.. ثم بطلي ليس بالرجل النكرة.. عاش حياة غير تقليدية.. أنا واثق".
وهكذا كان الكتاب الذي بين أيدينا، "مقتل بائع الكتب". إنه مغامرة في حياة الصحفي ماجد البغدادي وانجاز ملموس له سيبقى في الذاكرة، فهو سيعمر أطول فترة زمنية، لأنه يتكلم عن شخصية غير نكرة، نادرة في سيرة حياتها، ونادرة في مقتلها، ونادرة في عدم معرفة سبب قتلها، ونادرة في المكان والزمان التي قتلت فيهما، وفوق كل ذلك انها شخصية عراقية تحملت كل المآسي التي تحملها البلد والشعب في العراق.
سأكتب مقدمة أولا عن عنوان الرواية، لأنه الوحيد الذي سيوصلنا الى معناها الاولي والظاهري، والذي سيصل اليه المتلقي، حين يجمع شتات الرواية، وينظم احداثها، ويسمع حديث شخوصها، ويرى افعالهم، ومن ثم نقول المستتر والمخبأ من عالمها السردي.
ان "مقتل" هي على وزن "مفعل"، مصدر ميمي، ويمكن ان ننهيه بـ "ة" ليكون "مقتلة" بائع الكتب، و"المقتلة" هي شدة القتل وقسوته، وهكذا كان مقتل هذا البائع، الماركسي والمسجون سابقا، فهل كان الروائي يريد من روايته ان تقدم حادثة مقتل هذا البائع، أم انه يريد ان يقدم صورة عن مقتله؟ أم هو يريد ما هو أبعد من ذلك؟
أو أن "مقتل" اسم للزمان ليدل على زمان وقوع الفعل، فعل القتل، وقد وقع هذا الفعل في وضح النهار وامام الجميع.
أو أن "مقتل" اسم مكان ليدل على مكان الفعل، مكان فعل القتل وقد وقع في الشارع، وفي مكان مزدحم بالمارة.
اذن امامنا مصدر ميمي، واسم زمان، واسم مكان لحدوث فعل ما، هو فعل القتل الذي وقع على بائع الكتب في بعقوبة، وبعقوبة مدينة عراقية، وعندما يقع فعل القتل على شخص ما" والمقتول شخصية عراقية، تتحرك جميع قوى الحكومة لتقف على اوليات هذا الحادث، الا ان روايتنا تأخذ مسارا غير المسار الرسمي، وهو المسار الشخصي، اذ يرسل احد شخوص الرواية، غير المعروفين، إلى احد الصحفيين ليأتي من بغداد الى بعقوبة ويجمع المعلومات عن هذه الجريمة ليصل الى حقيقتها، ويكتب كتاباً في ذلك.
"بائع" اسم من باع يبيع بيعاً، وهو عكس "شاري"، وهذا البائع يقوم ببيع الكتب، فتجد عنده الكتب القديمة والحديثة، السميكة والقليلة الصفحات، غنية المادة أو فقيرتها من المعلومات، شعر وقصة، رواية وفلسفة، تاريخ وجغرافية، كتب الطبخ وكتب المكياج، ويبيع كذلك المجلات بكل انواعها. اذن هو يبيع كل شيء له علاقة بالثقافة، ثقافة المدينة، فهو مقدم هذه الثقافة الى ابناء المدينة، وسقوطه يعني سقوط الثقافة في المدينة.
هذا البائع قد وجد مقتولا في الشارع، عندها توقف عن بيع الكتب والمجلات في محله "سردابه"، فافتقدت المدينة عنصرا مهما من عناصر ثقافتها المعاصرة والقديمة، فهل هذا يكفي لنكتب رواية عن مقتله؟ أم أراد ذلك الشخص من الصحفي ماجد ان يدون تاريخ حياة هذه الشخصية؟ أم أن هناك أسباباً اخرى تقف وراء كتابة هذه الرواية؟
الرواية اعتمدت على حبكة القتل، والبحث عن القاتل ، كمن يبحث عن ابرة في كومة قش، فكادت ان تكون رواية بوليسية، لا لأنها تمتلك تلك الحبكة وذلك البحث فحسب، وانما يعود السبب الى طريقة واسلوب الصحفي ماجد البغدادي "التحري"، الباحث عن القاتل، وهو اسلوب بوليسي كما تقول المصادر التي تتحدث عن الرواية البوليسية، وتضع اشتراطات من اهمها ما قلناه، او سنقوله في السطور القادمة، اضافة للتشويق والاثارة، فضلا عن الغموض الذي يلف الرواية بغلالة كثيفة، من خلال تنوع صور السرد فيها، من مثل الحوارات المباشرة والهاتفية، واستخدام الصور واللوحات، واشرطة التسجيل كوثائق، واشياء مكتوبة كمذكرات، وغير ذلك، وكل هذا يعتمد المخيلة النشطة للكاتب، لهذا نجد هذه الرواية تقترب من ان تكون رواية بوليسية، الا انها افترقت عن هذا اللون، من خلال عدم الوصول الى القاتل، وأسباب القتل، أي حل هذا اللغز.
ان احجية الرواية لم تكتمل في جانب منها الا انها اكتملت في جانب اخر، فكانت رواية تتحدث عن مأساة المثقف، والعراقي بصورة عامة، والازمة التي وضعت الاحزاب التي تتصف بالتقدمية نفسها فيها.
ان الاهتمام بمقتل هذه الشخصية من قبل احد معارفها جاء بسبب كون حياته هي "دراما كبيرة.. تلخص تاريخاً عريضاً لجيلنا"، أي جيله، وقد كانت الرواية هي كذلك بما قدمته من معلومات مثيرة وصادمة. انها قدمت تاريخا للجيل الذي تحدثت عنه.
ان من مصادر الصحفي البشرية والذين قدموا له مادة دسمة عن المرزوق، الشخص المقتول، هم كل من: فِراس سليمان ابن أخت المرزوق، وهيمن قره داغي وهو كردي، وسامي الرفاعي الرسام الذي يعيش في هولندا، ورباب صديقة محمود المرزوق المُقرَّبة، واثير البغدادي العراقي الذي يعيش في اليمن، ومصطفى كريم، وغيرهم، حيث ان كل شخصية من هذه الشخصيات تقدم بعض جوانب حياة المرزوق المحب، والماركسي، والسجين السياسي السابق، لتكتمل بعد ذاك قصة حياته، الا ان مقتله لم يكن مفهوما، ولم يكن معروفاً للآخرين.
امامنا الان صور ذهنية مخزونة على شكل ذكريات، وكذلك رسائل، وصور فوتوغرافية، هي ما قدمه كل من فراس سليمان، وهيمن قره داغي، وسامي الرفاعي، ورباب، واثير البغدادي، وعلى الراوي "ماجد الصحفي" ان يجمع فيما بينها لتكون صورة واحدة هي ما يمكن ان نسميه رواية "مقتل بائع الكتب".
عند تجميع كل الصور/ الذكريات هذه، اضافة لما سمعه من الاخرين، تكون الرواية قد وصلت الى خاتمتها دون معرفة السبب الذي يقف وراء قتل المرزوق، هل هو قتل سياسي، ام انه قتل ثقافي، او طلباً للثأر، او "جاءت للمرزوق طلقة تائهة" فاستقرت في بدنه واردته قتيلا في الشارع؟
تنتهي الرواية بخيبة افق المتلقي لأحداثها الدرامية، وعمل الصحفي، ومتابعته لقضية القتل، اذ يبقى القاتل مجهولا، وبعيداً عن قبضة العدالة، وكذلك فإن دوافع القتل غير معروفة السبب، الا اننا نتعرف على الكثير من تاريخ هذه الشخصية "محمود المرزوق" الذي قتل بطريقة غامضة، نتعرف عليه عندما كان داخل العراق، وخارجه، وهو يحب، وفي حله وترحاله، وفي السجن او خارجه، وكذلك نتعرف عن واقع العراق المأساوي بعد الاحتلال عام 2003.
وبأسلوب مسرحي كما التعليمات التي يعطيها الكاتب للمخرج عن الزمان والمكان ينقل لنا الراوي "الصحفي" مشهد قتل المرزوق فيقول: "يصير بمواجهة شاب... يتصافحان... يتكلمان في امر ما.. لا تستغرق المكالمة اكثر من دقيقة او دقيقة ونصف..."الخ.
نتساءل: هل قاتل المرزوق هو هذا الشاب؟ أم انه قتل من قبل شخصاً اخر؟
الرواية تنتهي دون ان تذكر الجاني، ولا السبب. إذ انها تبقى مفتوحة على كل الاحتمالات التي ذكرت في الرواية، او التي لم تذكر، وهذه النهاية المفتوحة هي ما تحفل به الرواية الجديدة "ميتافكشن" من ضمن تقنياتها.
ان الذي ترمي اليه الرواية هذه هو القتل المجاني لأبناء العراق الذين يعيشون في مركز الحياة، او في هامشها، انه قتل غير مبرر، ومجهول القاتل.
ان اختيار الكاتب لهذه الشخصية جاء بسبب ان الناس جميعاً هم مشروع للقتل، ويمكن ان يطالهم القتل المجاني حالهم حال الشريحة المتعلمة والمتنورة والمثقفة كالعلماء والاطباء والمهندسين والصحفيين وغيرهم، فقد قال كاميران عادل" إن كل شخص في هذا العالم يمكن أن يكون ملهماً لروائي ما في إحالته إلى شخصية تتحرك في رواية".
الراوي في هذه الرواية كان بعيدا عن ان يكون شخصية ذات تأثير سلبي او ايجابي على مجريات الاحداث، بل كان:
- غير جازم بما توصل له من تحريات، فيبقي الامور مفتوحة لشتى الاحتمالات.
- استخدم جميع الوسائل المادية والمعنوية للوصول الى الحقيقة التي يبحث عنها، الا انه فشل في ذلك، او ان الكاتب اراد ذلك.
- لم يكن الكاتب مؤرخا لحادثة القتل، وذلك لأنه ابعد كل شيء عن تحرياته وعما يسمى بمنظوره الشخصي للأشياء والامور، فظل حيادياً وغير مؤثر في مجريات الاحداث.
- قدم صورة بانوراميه ودقيقة في الآن نفسه لتاريخ الشخصية، وللعراق عموماً.
نتساءل: لماذا اختار الكاتب شخصية المرزوق لتكون محور الرواية ونقطتها المركزية؟
ان اختيار هذه الشخصية الميتة هو لقراءة ماضي العراق وحاضرة لنتبين بعدها مستقبله. ماضيه المليء بالسجون والدماء والازمات، وحاضره كذلك. وعلينا ان نسأل انفسنا عما سيكون مستقبله المخبأ في المجهول، وماضيه وحاضره، هكذا احمر دام، مكبل بأصفاد السجون، ومتأزم.
لقد كان المرزوق شاهدا على كل ما مر على العراق من نكبات وانكسارات ومحن وهزائم حتى وصل الحال بالوضع العام في العراق الى ان يتحول من قمع السلطة الى قمع المجتمع.
واذا كان الكاتب غير مهتم بالرجل الذي ارسل في طلب الصحفي للكتابة عن المرزوق، فالسطور هذه لا يهمها امره، بل انها مهتمة كالرواية التي تقدم تاريخ العراق المعاصر من خلال هذه الشخصية.
الرواية تؤسس الى شيء خارج أي تنظيم حزبي، بل انها في جانب منها تنعى التنظيم واي فكر ينضح منه، وتنعى أي فكر: "ما يصنع التاريخ الآن ويحركه هو الآتي، المافيات والعقائد الجامدة والمسمومة والتطرف والإعلام الديماغوجي والدعاية السياسية الخداعة والمصالح الفردية الضيقة".
ان ما مر من صور التاريخ المعاصر للعراق لم يجعل من الكاتب سعد محمد رحيم مؤرخاً، ومن كتابه/ روايته كتاب تاريخ، لان مجال التاريخ ليس مجال الكاتب سعد، وانما مجاله هو النص الروائي، إذ قدم لنا في كتابه هذا الذي ذكرناه في اول سطر من دراستنا رواية جديدة تعتمد الاسلوب المسرحي، والاسلوب السينمائي، واسلوب الحكاية، انها رواية من روايات الميتافكشن التي تدهش القارئ في فنها ومادتها.
***
اذا كانت شعرة معاوية التي بينه وبين الناس "الرعية" قد اشتهرت كثيرا في التاريخ، فإن شعرة سعد محمد رحيم قد وصفها بإنها "شعرة واهية بين المعقول واللامعقول في حياة البلاد"، ظلت من خلال هذه الرواية خالدة في الذاكرة. إذ ان المعقول في زماننا هو القتل كجريمة بحد ذاتها، واللامعقول هو كيفية وسبب القتل.
وقد كانت في ذهني وانا اقرأ هذه الرواية اكثر من رواية، مثل رواية "شيفرة دافنشي" لدان براون والبحث عن اثر جريمة تقع في متحف اللوفر وسط ظروف غامضة، فيكتشف هذا الباحث اشياء جديدة لا علاقة لها بالجريمة. ورواية "اسم الوردة" لامبرتو ايكو التي فيها يعرف راهب ضيف يدعى ويليم ان الجرائم التي تقع في الدير هي من فعل فاعل، وتنفتح امامه قضايا جديدة لا علاقة لها بالجريمة. ورواية عبد الخالق الركابي "ما لم تمسسه النار" حيث يبحث بطلها عن موت "نديم" فتنكشف امامه ابواباً كثيرة وغيرها، وكل هذه الروايات تتحدث عن شخص يبحث عن شيء ما فتنكشف امامه اشياء، وروايتنا هذه هي من هذا النوع السردي.