ادب وفن

"شفاه الشطرنج".. الصورة وسيميائية النص / احمد عواد الخزاعي

من العتبة الأولى للنص "العنوان"، يدرك القارئ البعد الأيديولوجي والدلالي لرواية "شفاه الشطرنج" للقاص والروائي واثق الجلبي، أن تجعل للشطرنج شفاها فهذا يتطلب إدراكا استثنائيا، لكتابة نص وفهمه، حين تنطق البيادق متحدثة عن، هواجسها، أحلامها، أحزانها وأفراحها، عن رغباتها الدفينة القابعة في هوة النفس الإنسانية، في هذا النص كشف لنا واثق الجلبي عن الوجه الآخر للحياة، الوجه البشع المتواري خلف أقنعتنا الجميلة أو التي نحاول تجميلها، علائق اجتماعية انتشلها من الجزء المظلم من الواقع، وسلط عليها الضوء، على الرغم من محدودية الحيز السردي الذي تحركت فيه هذه العلائق، إلا إن الصورة وسيميائية الحركة واللغة منحوها زخما قصديا كبيرا ومؤثرا، وصغر حجم الرواية ذات الاثنين والستين صفحة، جعلت من كاتبها يحرص على أن تكون لكل مفردة قصديتها، ولكل حركة دلالته، لإيصال فكرته التي تشبثت بأصوات عدة، غير ان هذه الأصوات قد توحدت بمفهومين رئيسين، كونا البؤرة السردية للحدث الروائي، وهما: "اللذة والألم"، جدلية فلسفية شغلت حيزا واسعا في التفكير الإنساني، وظهرت مدارس فلسفية حاولت تأطير هذين المفهومين الجدليين، والتي كان أبرزها المدرسة الرواقية لزينون، والمدرسة الأبيقورية، واللتين تقاطعتا في تعاملهما مع اللذة والألم، من منطلق سلوكي.. لكن الروائي قد انطلق في تعامله معهما، من مفهوم صوفي متخذا العنوان العام للتصوف ركيزة ومعيارا في محاولته لفك رموز هذه الاحجية، التي أصبح ابطالها الستة جزءا من ادواتها، مستعينا بتقنية السارد الخارجي الذي يعرف كل شيء لتمرير نصه الجريء.
تبدأ الرواية بنص فلسفي للإشارة إلى الطبيعة المركبة والمعقدة لشخصية بطلها الرئيس، الذي أطلق عليه اسم "مدان" في تصوير لطبيعة الإشكالية الاجتماعية والسياسية، التي تحيط بالمثقف العراقي اليوم "في لحظة مهملة عادت فيها روحه لتلتحق بجسده، كان لزاما عليه أن يدخن الغيم، كي يعرف لماذا حطت رحاله، على وجه الأرض" من هنا تنطلق الرواية، في عملية سقوط نحو الواقع، لنفس حاولت أن تنأى بنفسها عن الواقع الأليم، وتعيش في طوبائيتها متوحدة في عزلة اختارتها لنفسها.
كان مدان، شخصية بلا ماض لم تشكل تداعيات الماضي جزءا من حاضره، رجل بلا ذاكرة، يعيش وعيا ثقافيا مكتسبا، نتج عن سفر طويل من القراءة، لذا لم تأخذ تقنية الارتداد أي هامش في هرمية النص، أو بنائه الحكائي، هو عدسة "كاميرا" تراقب تتفحص محيطها الاجتماعي، تبحث عن بؤر التأزم فيه، البطل "مدان" هو مجموعة قيم حاولت الحفاظ على نفسها في زمن الفوضى "كان مدان يراقب الأحداث بتخوف، وألم شديدين".
أما "عماد" الشخصية الجدلية الثانية في الرواية، الأستاذ الجامعي المتدين، المبتعد عن عالم النساء لقناعة صوفية خاطئة، رسخت في ذهنه، بأنهن سبب كل خطيئة، قاده إدراكه هذا إلى الوقوع في المحظور عرفا ودينا، حين ارتبط بعلاقة شاذة مع طفل يتيم ليلبي حاجته الجنسية، "دريد" الطفل الفقير الذي فقد أباه في فوضى الاحتلال الأمريكي، هذه الثغرة الاجتماعية سهلت لعماد استغلاله بهذه الصورة البشعة.. لم يكن عماد مرائيا كما قد يتصور القارئ في أولى صفحات الرواية، ولم يكن يعاني ازدواجية الشخصية، عند إقدامه على عمل معيب وشاذ كهذا ، بل كان مؤمنا مقتنعا بما يقوم به، ويعده وسيلة أكثر طهرا للحصول على اللذة.
في الجانب الآخر تقف نيران وصديقتها رند، ليعبرا عن رغبيتهما الجنسية من منظور آخر.. نيران أقامت علاقة شاذة مع كلبها تومي كبديل لعلاقة طبيعية مع رجل، ورند فتحت أشرعتها لرياح الفحولة بكل مسمياتها وعناوينها، لتقيم علائق مفتوحة مع عدة رجال، غير مقيدة بأطر وضوابط مجتمعها الشرقي المحافظ، كنوع من الثأر لواقع أسري سيئ، وقد عبرت كل منهما عن موقفها السلبي من الرجل، في مشهد قتلهما الكلب تومي، الذي عكس طبيعة الشخصيتين اللتين تآمرتا عليه، والدوافع الحقيقية الكامنة وراء فعلهما، "رند" أرادت الانتقام من الفحولة بعنوانها العام، ونيران أرادته ثأرا لغريزتها الثائرة، أمام زوج عاجز، هذا الاستنتاج أشار إليه مدان في حديثه مع رند "أما نيران فقد أرادت الخلاص من زوجها ومن تومي في لحظة واحدة... أما أنت فقد حاولت تنفيذ انتقام سابق".. وتوارت علاقة حملت بعدا جنسيا، لكن في صورة مختلفة، هي لا تملك شروط العلاقة الاجتماعية المتعارف عليها، غير إنها كانت حاضرة بوضوح داخل النص، هي علاقة أم دريد الأرملة المعيلة لعدة أيتام، مع غرائزها والكبت الذي تمارسه على نفسها من اجل الحفاظ على أطفالها "كانت تبكي من كل جسمها، الذي كبتت فيه اللذة والجنس، من اجل أطفالها وهي غير نادمة على قمع الجسد".
هؤلاء الأشخاص صورهم واثق الجلبي على أنهم ضحايا وليسوا جلادين، هم إفرازات لفوضى اجتماعية وسياسية، وهم نماذج لواقع سيئ.. من خلال هذا الاستعراض المختزل لطبيعة الحراك الإنساني، نجد إن الروائي قد طرح مفهوما معاكسا لمقولة عالم النفس فرويد "الجنس يفسر كل شيء".. في محاولة منه لقلب هذا المفهوم، والانطلاق من الواقع إلى الجنس وليس العكس، جاعلا من الظروف الاجتماعية الصعبة والمضطربة التي عاشها ويعيشها أبطاله، تفسيرا لسلوكهم الجنسي الشاذ.
تميزت الرواية بكثرة الحوارات الثنائية التي أخذت منحا ثقافيا جدليا، مثل حوارات مدان وعماد، وحوارات رند ومدان، عن التصوف ومظلومية المرأة الشرقية، كانت لغة الحوار عالية تستمد وجودها من أطروحات فكرية ونظريات اجتماعية وفلسفية، ووجهات نظر واعية متقدمة للبطل مدان، إضافة إلى الاستعانة بنصوص مقدسة في هذه الحوارات، لتعضيد وجهات النظر المطروحة، وأحداث ميثولوجية مقدسة "اخرج كفا له بيضاء ومسح على قلبها".
عناصر وتقنيات الرواية:
1- اللغة: تميزت اللغة سردا وحوارا كونها ناضجة واعية، تسير بإيقاع ثابت وبمعايير لغوية ذات مبنى فلسفي، وقد برر الروائي لها السلوك اللغوي، بأن جعل معظم أبطاله أكاديميين ومثقفين.. وقد وظف جزءا من وعيه الفني كونه شاعرا، إلى لغة النص مجسدا مقوله الناقد توما تشفسكي "وظيفة السارد تحويل الحياة الفجة إلى صورة فنية".
2- تقنية القفز: استخدم الروائي تقنية القفز لاختزال الكثير من المشاهد والأحداث، كي لا تشكل عبئا على القارئ، وقد تمثل القفز عبر انتقالات سردية سريعة ومفاجئة في الأحداث، تنبثق دون تمهيد لها.. مثل زواج أم دريد من عماد، وإصابة نيران بمرض السرطان، ثم شفائها، إضافة إلى إن خاتمة النص مثلت عملية اختزال وقفز كبيرة، حُددت فيها مصائر أبطاله، عبر زمن مجهول المعالم، لم نعرف مدته، غير إننا أدركنا الأسباب التي وقفت وراء هذه التحولات المفاجئة في حياتهم: "عماد" رحل إلى مدينة أخرى باحثا عن ضحية أخرى.. "دريد" تجاوز ماضيه السيئ مع عماد بفضل أمه.. "نيران" تلجأ إلى التصوف لحل مشاكلها النفسية والاجتماعية وتختار العزلة .. "رند" تتخلى عن نزعة الكراهية اتجاه الرجل، بفضل علاقتها مع مدان، والتي كانت العلاقة الايجابية والمنتجة الوحيدة في الرواية.
3- انطباعية النص: تعد رواية "شفاه الشطرنج" من الروايات المتزامنة حسب تصنيف جيرار جنت، أي إن الرواية يتطابق فيها زمن الأحداث مع زمن كتابتها.. لذا نجدها قد آخذت شكلا انطباعيا مفرطا في عملية نقل الواقع الاجتماعي المعاصر، بأدق تفاصيله وبجرأة عالية، حيث إنها تناولت المسكوت عنه لأسباب تتعلق بطبيعة الأعراف والدين لمجتمعنا الشرقي.. فقد بدت بعض التفاصيل وكأنها عملية اجتزاء لمشهد حياتي من واقع حقيقي، لأناس عاشوا التجربة بنفس عناوينهم الاجتماعية "كانت الغرفة مرتبة بشكل دقيق فأم دريد تحمل شهادة البكالوريوس في اللغة العربية، وهي ربة بيت ماهرة، وموظفة بارعة".
4- الصورة وسيميائية النص: برع الروائي في نقل الوصف الدقيق لصورة الحدث، وسيميائية الحركة الدلالية فيه، فقد نقل الواقع المأزوم الذي عاشه أبطال شفاه الشطرنج، عبر التركيز على صورة المشهد العام، والإشارة إلى حركاتهم وسكناتهم وتفاعلها مع الأحداث، كما في مشهد اكتشاف أم دريد للعلاقة الشاذة التي تربط ولدها الصغير مع عماد، بالرغم من محدودية المشهد، لكن الترتيب الإيقاعي لحركات يدها، وملامح وجهها في تلك اللحظة، كشفت عمق المأساة والصدمة والألم.. وكذلك عملية تصوير علاقة نيران بكلبها تومي، كانت عملية ناجحة لاستنطاق الصورة.
استخدم الروائي الوصف بصورة مقننة جدا، لتوضيح قصدية اجتماعية معينة .. مثل وصفه شكل ماهر زوج نيران، وتصوير وسامته وحالة الثراء الفاحش التي يعيشها، وطبيعة البنية الاجتماعية التي نشأ فيها، وكذلك وصفه والد نيران للدلالة على المكانة الاجتماعية والسياسية اللتين يحظى بهما كونه سياسي كبير "دخل والد نيران إلى البيت وكان رجلا في الخمسين من العمر، ممتلئ الجسم سيكاره لا يفارقه، يرتدي بدلة رصاصية اللون".