ادب وفن

"حب في ظلال طاووس ملك".. العودة الى الذاكرة / شلير سعد ستار

عندما انتهيت من قراءة رواية "حب في ظلال طاووس ملك" للكاتب حمودي عبد محسن وجدت فيها صرخة مؤلمة، تمتزج مع الحزن والقهر:
ـ أريد أن أعيش بأمان في أرضي التي أحبها.
هذه كانت صرخة الإيزيدي وقد ترددت كصدى عبر تاريخ طويل وأزمان مختلفة متعاقبة تجعل المرء يتأمل في سكون وصمت هذا الكيان الإيزيدي حيث الرواية تتحدث عن التراث والموروث الثقافي الإيزيدي الذي يمتد إلى بابل وسومر. كيان أثار الجدل والنقاش المتباين حول جوهر معتقده وسط الكتاب والباحثين والمؤرخين بما فيهم المستشرقين الذين ارتأوا أشياء كثيرة غامضة مبهمة حتى تخرج لنا هذه الرواية، ليظهر لنا مؤلفها الحقيقة الجمالية لهذا الكيان العراقي الأصيل الذي تعرض للاضطهاد على مراحل التاريخ من قبل سلاطين وأمراء وطغاة، فعانى الإيزيدي من 73 مذبحة "فرمان" وآخرها المذابح التي ارتكبتها عصائب "داعش" الارهابية ضدهم.
الرواية تتألف من عشرين فصلا ب320 صفحة من القطع المتوسط تتحدث عن قصة حب بين هنار والراعي ميرزا في قرية بحزاني وهما الشخصيتان المحوريتان في الرواية. حب بريء طاهر في أجواء جمالية تجعل القارئ مندهشا مذهولا كأنه في حلم إزاء دقة الوصف للمشاهد والصور سواء كانت للشمس في حلتها الذهبية أم لظلال الأشجار التي يداعب أوراقها النسيم أو رقرقة ينابيع المياه الصافية أو زهرة برية نضرة تأخذ الناظر إلى زهوها أو هذا الطائر الذي تشتهر به بحزاني وهو طائر السنونو.
نعم، الرواية أشبه بلوحة تشكيلية من ألوان مختلفة تعيد أيضا الذاكرة إلى التاريخ برؤية نقدية صادقة قصدها الإنسان الإيزيدي، فهي مليئة بالأحداث، ومليئة بالحكايات المدهشة التي تمزج بين الميثولوجيا الإيزيدية والواقعية المعاشة تقتفي إثر الجمال الطبيعي والجمال الروحي بتفاعل منسجم متناسق، فخيال المؤلف يقود القارئ إلى عوالم خفية متعددة من الجمال والحب البريء والتصوف في معبد لالش، ليكون ذهن القارئ شاردا بين الفينة والأخرى إلى البعد الإنساني والكوني تحيطه أشياء جديدة يراها وينظر إليها لأول مرة في انبهار، فهذا الحب اللطيف بين ميرزا وهنار الذي توج بقبلة نقية صافية منعشة، والذي جمع الحبيبين كألفة حياة متجددة مثل برعم الربيع، إذ شاء القدر أن تموت هنار بنغزة نحلة سامة، فتحدث هنا الدراما والتراجيديا.
ثم فيما بعد يصبح ميرزا الشخصية المحورية في الرواية بعد موت هنار، وتحدث المتاهة لعاشق ولهان بحبيبته يقضي وقته هاربا تائها في الجبال كما ورد في الرواية: "فقد ضاع عنده كل شيء وتهدم وسط حطام ثم تملكه الحاجة إلى الفرار، آنئذ وقف في مدخل وادي سنجق، وانتابته رغبة قوية أن يصرخ، لم يقدر على التخلص منها، فانطلقت مدوية حادة مرعبة من أعماقه، ثم انفجر باكيا وانهمرت الدموع الغزار من عينيه، وراح يهيم على وجهه في الجبال والوديان".
يقنعه جده ذات يوم بالذهاب إلى معبد لالش، فيعيش متعبدا زاهدا متصوفا، ويلبس الخرقة في طقوس دينية مذهلة، والخرقة هي رمز التصوف، إذ كل من يلبسها ينذر نفسه لخدمة الناس، ويهب حياته للخير والسلام والمحبة، فهنا تأخذنا الرواية إلى عالم التصوف العجيب الذي نجد فيه طهارة النفس من الذنوب، والابتعاد عن ملذات الدنيا، فهذا الانسجام الروحي بطهارة النفس والتوق إلى الخالق الأعظم، والتعلق بجمال الطبيعة يبدأ تجذره في شخصية ميرزا ذات الطبع الحسن، الخجولة الهادئة اللطيفة لكن صورة الحبيبة هنار لم تفارق ذهن العاشق الولهان، فيختار الفردانية والعزلة، وقد تخلى عن كل ما هو دنيوي أو رغبات مادية حيث يسود في لالش عالم روحاني أخوي من الصفاء والنقاء في أجواء الطبيعة الخلابة، فينتهي المطاف بميرزا أن يسحب خطاه إلى قبر هنار في مسيرة طويلة مضنية، فيموت على قبرها من القهر والحسرة على فقدان الحبيبة.
الآن، بودي أن أقف على مميزات الرواية:
1ـ الرواية تجاوزت السرد النثري المعتاد في الرواية لأنها خطت لنفسها منهجا جديدا خاصا بها حين نتوقف عند الشخصيات المحورية والثانوية، ولغة الوصف والحوار، فنجد هذا التجانس المثير في وحدة فنية مستوحين الكفاءة والقدرة اللغوية الإيحائية، وكذلك امتازت بتفردها بملامح الشكل والمضمون، فتارة هي مرآة للتاريخ الذي عانى منه الإيزيديون بتعرضهم للبطش والاضطهاد والسبي حيث الفريق باشا والمخطوفتين اللتين يختم الروائي بهما الرواية وهي مخطوطة "الأمير الأعور وبدر الدين لؤلؤ"، ثم هي تزامنية حيث البطش والاضطهاد والسبي الذي تعرض له اليه الإيزيديون على يد "داعش"، فههنا تبرز الدلالة من خلال عناصر الرواية الزمان والمكان والشخصية والتاريخ وحكايات الجد لحفيده، وهي أيضا مرآة للواقع الاجتماعي ـ التاريخي لهذا الكيان بتراثه وثقافته سواء كان فرديا أو جماعيا، فميرزا يصبح المحور الأساسي في الرواية كتاريخ وكزمن مثقل بتداعيات الماضي القاسية التي لا يمكن نسيانها، فصورها تلاحقه كما لاحقت هنار في طفولتها. هذه المأساوية أراد بها الروائي أن تكون لها ملامح تأثير على شخصية ميرزا خاصة نلاحظ ذلك من خلال المناجاة الداخلية سيما وأن الرواية تغوص في أعماق نفس ميرزا كوجود نقي وجداني، وصاحب قيم مثالية.
2ـ الروائي حمودي عبد محسن لم يُعِد النظر في التاريخ برؤية نقدية بل يقف خلف شخصياته بتصرفها وانعطافها في أبعاد متنوعة تدمج ما بين الواقعي والأسطوري، وما بين الجمالي والعقلاني، متبعا نمطا بنيويا بتقنية فنية عالية، ويلبس الشخصيات حلتها الحقيقية متوخيا من ذلك خطابا إنسانيا عاطفيا لإبراز حقيقة الإيزيدي التي شوهت من قبل الكثير من المؤرخين والباحثين أصحاب الجمود العقائدي والتحجر، لذلك يمكن أن نقول بعد قراءتي لهذه الرواية أنها رواية أم الحقائق عن الإيزيديين.
3ـ الرواية منذ بدايتها وحتى نهايتها نجد فيها هذا الوصف المذهل المدهش بلغة أنيقة متسقة الذي لا يجيده إلا المتعمق في اللغة العربية، ولربما استفاد المؤلف من دراسته في كلية الفقه في النجف، وهنا اقتبس هذا المقطع المدهش من الرواية: "إذ من مصادفات القدر المشؤوم الذي برزت في هذه الساعات ملكة الحب العذراء ـ هنار ـ إن النحلة طردت من الخلية، وإنها راحت تشم عطر هنار الذي يميزها عن راحة الزهور أو لربما أن ميرزا قد أهدى جزءا من مسك الغزالة الفواح لهنار، وصار ينتشر في الأرجاء، فضرب وجه النحلة عطرا ذكيا فأثار غيرتها. المهم راحت تجوب أرضا فأرضا وراء البيداء، ومساقط الأنواء، وتفتش عن هنار مثلما تفتش عن رحيق الزهور، وقد انتابتها العدوانية المتوحشة" نلاحظ مدى جمالية ودلالة ودقة وبلاغة والمعنى البياني في هذا الوصف الذي يذهل القارئ، ويتابع ببصره الكلمات، فيحضر في ذهنه عالم خفي ساحر مفقود، فالكلمات تجري بتدفق وانسيابية لا مثيل لها.
4ـ أجد في هذه الرواية أن الخيال له جدلية خاصة في نسج الصور والمشاهد ببنية الرواية، لتكون حكايات الجد محورا مهما في الرواية سيما وقد تعددت الأصوات في سردها، فهي ذات قيم أخلاقية ـ جمالية تحاول أن تعطي نظرة شاملة للكون، فيكون هنا الجد أشبه براوي، ويكون الحفيد ميرزا هو المستمع الذي في صباح كل يوم يسرد الحكاية لهنار، فنلاحظ هذا الشغف على وجه الطفلين خاصة وإن ميرزا يغير ويضيف حسب رغبته في الحكاية التي سمعها من جده في الليل، لتتلاءم مع تطلعات هنار، فالحكايات نجدها تربوية أيضا على حب الناس والحيوان والطيور، والتضامن بين الناس مع بعضهم بعض كأحرار في هذه الأرض.
5ـ رواية "حب في ظلال طاووس ملك" هي خطاب إبداعي في حيز الوعي الإنساني، وهي ناطقة عن جروح التاريخ التي ما زالت تنزف أي هي ضد العنف الدموي الذي تعرض له الإيزيديون، وهي الفكرة الإنسانية، والدراما والتراجيديا والرمز، فهنيئا للرواية العربية، وهنيئا للمكتبة العربية، والأدب العربي، وهي الحقيقة لزمن يبحث عن الحقيقة، وأرجو من وزارة الثقافة العراقية أن تنتبه إلى هذه الرواية المتميزة.