ادب وفن

محمود درويش عراقيا / عزالدين بوركة

إن الشِّعْرَ يُولَدُ في العراقِ،
فكُنْ عراقيّاً لتصبح شاعراً يا صاحبي!
"محمود درويش"
الشعر وُلِد عراقيا كما يقول محمود درويش وهو ينفض عنه غيم الكلام إن الشعر يُولد في العراق، هكذا كان حب هذا الشاعر الذي وسمت تجربته الشعرية الفذة مرحلة بأكملها من عمر القصيدة العربية المعاصرة، فمحمود درويش الذي طالما تغنى بالعراق، واستلهم من رموزه وأساطيره الكثير، وهو ينقح كتاباته وأشعاره، لم يستطع التملص من إعلان حبه، وهو يعلنه في قصيدته الطويلة التي أهداها لذكرى السياب:
أتذكّرُ السيّاب، يصرخُ في الخليج سُدَىً:
عِراقُ، عراقُ، ليس سوى العراق.
ولا يردُّ سوى الصدى.
أَتذكّرُ السَّيَّابَ، في هذا الفضاء السُّومريِّ
تغلّبتْ أُنثى على عُقْم السديمِ
وأوْرَثَتْنا الأرضَ والمنفى معاً
أَتذكَّرُ السيَّابَ… إن الشِّعْرَ يُولَدُ في العراقِ.
إن الشعر يُولد في العراق.. بهده العبارة التي تنتخب المهارة إذ تجتهد وهو يلمع كلماته ليعلي قوله، فلم يخص درويش بلدا عربيا بكامل هذا الدفق.. صداقاته وزياراته ظلت قوية ودائمة، حتى بعد ذلك السوء الفهم الكبير الذي قوبلت به قصيدته، "قمر بغداد الليموني" في الوقت الذي كان فيه العراقيون يتفحمون فيه على جبهات الحرب مع إيران، والذي سرعان ما زال وتلاشى وسط ذلك الحماس المنقطع النظير، الذي كان يستقبل به في مدرجات الجامعات ومنتديات المراكز الثقافية، والذي توالى مند زيارته الأولى للعراق لإحياء أمسية شعرية بجامعة المستنصرية سنة 1971 .إلا أن المثير أن هذا الشاعر استخدم وبغزارة ربما أكثر من أي شاعر عراقي آخر، رموزا ومحطات حضارية وثقافية ذات وقع وتأثير ليس على العراق وحسب، وإنما على العالم أجمع، كشرائع حمورابي وملحمة جلجامش.. وأساطير بابل وشور، في قصيدته إلى السياب:
أتذكّرُ السيّاب… لم يَجدِ الحياةَ كما
تخيّل بين دجلةَ والفراتِ، فلم يفكّر
مثلَ جلجامشْ بأعشاب الخلودِ،
ولم يُفكِّر بالقيامة بعدها…
أَتذكّرُ السيّاب, يأخذُ عن حمورابي
الشرائعَ كي يُغَطّي سَوْءَةً,
ويسير نحو ضريحه متصوّفاً.
يقول عنه الكاتب العراقي فاضل ثامر "مهما نستذكر ونقف عند المنجز الشعري الإبداعي للراحل، فمن الصعوبة أن نفي حق هذا المبدع الذي وضع أمام أن يتحول الشعر الى رغيف خبز أو نبراس يضيء ظلام هذا الزمان".
إننا إذ نتكلم عن محمود درويش عراقيا إنما نتحدث عن تاريخ طويل من المودة بين الشعراء، وهذا الحب الهادر الذي خصه درويش لهذا البلد، وإن لم يكن قد اختاره لظروف الحرب آنذاك، كأحد منافيه العديدة، إلا أنه أقام فيه شعريا وتغنى بأساطيره وأبجديات وجوده، وعنه يقول:
العراق ، العراق دم لا تجففه الشمس
والشمس أرملة الرب فوق العراق. يقول
القتيل العراقي للواقفين على الجسر : عِمتم
صباحاً، فما زلت حياً . يقولون : ما زلت
ميتاً يفتش عن قبره في نواحي الهديل
حضور العراق في شعر درويش، وكتاباته النثرية، لم يوازه حجما حضور أي عاصمة عربية أخرى، حيت ظلت تلك الأبجدية الغناء في شعره، الذي تحلى بمقاييس أخلاقية وحضارية وجمالية كبرى، يقول في قصيدته إلى شاعر عراقي شاب:
أَما قُلْتَ لي في الطَّريقِ إلى الرِّيحِ :
عَمَّا قَليل سَنَشْحَنُ تاريخَنا بالمَعاني ،
وَتَنْطَفِئُ الحَربْ عمَّا قَليل
وَ عمَّا قَليل نُشَيِّدُ سُومَرَ ، ثانِيَةً ، في الأَغاني
وَنَفْتَحُ بابَ المَسارحِ للنَّاسِ والطَّيْرِ مِن كلّ جِنْسِ ؟
وَنَرْجِعُ مِنْ حَيْثُ جَاءَتْ بِنا الرِّيح
وقد كان لدرويش صداقات قوية مع نخبة من الشعراء العراقيين، من أبرزهم سركون بولص، الذي حَفّه بقصيدة باذخة حين كتب عنه: لك الشّعر الأخير وهواء الحقيقة التي أتعبتك /كم أنت حُرٌّ أيها المنسيُّ في المقهى!