ادب وفن

احتمالات النص ومحمولاته / جاسم عاصي

إن مغادرة موقع النصوص الأولى باتجاه نمط آخر من الكتابة، مطلوب في لعبة السرد. ذلك لأنها تندرج ضمن عملية التجريب، لا من أجل الاستقرار على نمط "هوية الكتابة" وإنما لتواصل فعل الانتاج واستمراره. فالتحول سمة فنية ودليل اتساع الرؤى نتيجة المعرفة الذاتية والموضوعية. وهذا ما لاحظناه في كتابات القاص باسم الشريف بالرغم من تقديمه نموذجين قصصيين هما "شواهد الأشياء عام 2007 وسعادات الأمكنة المضاعة" عام 2016 والمسافة الزمنية بين صدورهما غير قصيرة نسبياً. ولأن القصص تنطوي على تداخل وتكرار استوجب على الكاتب مبرراته، فهي حاملة لخصائصها الذاتية والموضوعية. النصوص ذات صلة ببعضها. من هذا المنطلق ارتأينا أن تكون قراءتنا محكومة بزمن واحد، وبتسجيل موجب، إدراكاً منا للعلاقة العضوية بين قصصه مجتمعة في قراءة موحدة.
تجليات المكان
كما ذكرنا يلعب المكان دوراً في ايقاظ الذاكرة. فهما "الذاكرة/ المكان" صنوان في صياغة واحدة فــ "المسفن" مثلاً مكان ماثل في الوجود البصّري، بنيت عليه وحوله الأحداث. فهو معلم يحمل هويته. غير أن الأزمنة أضافت إليه تراكم كمي أفضى إلى تراكم نوعي، فغدا معلما له خصائصه الذاتية والموضوعية. وحين يتكئ عليه القاص، فهو يلجأ إلى رمز من رموز المدينة، ذي الفعالية الوجودية. فهو من بين الأمكنة المهمة والتاريخية في المدينة، لما شاب وجوده من خصائص سلبية وايجابية، أي كان له عطاء. وفي "مقبرة الدوب" لا ينفصل النص عن سابقه، ذلك لأنه بالنتيجة ناتج له. يرتبط مع المسفن برابطة عضوية. فـ "المسفن" من سفن و"الدوب" من دوبة، تشغل حيّز المسفن المائي. والمفارقة هنا تكون للدوب مقبرة كما البشر. فهي لا تُدفن، بل تظل عالقة في المكان، متراكمة يذهب الى مشهدها المخيال على أنها مقبرة تضم أشياء وهياكل محتضرة "كانت تجد في انجذابه نحو تلك الدار المطلة على المقبرة المائية، وما يندّ عنه من تجوال بين ركام الهياكل الطافية" هنا يكون التعامل مع الأشياء تعاملاً فيه أنسنه للصامت. فهو كقاص يتعامل مع الأشياء وشواهد تعكس سيكولوجية الإنسان ومعاناته. فبث الروح في المهمل أمر فيه اشراق. خاصة التأثيرات التي يتركها المهمل على النموذج. ولعل ما يُشير إلى المكان في نص "شواهد الأشياء" هو المقطع الشعري للشاعر قاسم محمد علي القائل:
{ سدرة البيت كانت حزينة. .
والعصافير قد فارقتها
وظلَّ على الماء
يصبغ وجه المساء. .}
هذه الرهافة الشعرية، عكست طبيعة المكان "المنزل" فأسست للنص رؤاه الكامنة في الذات القصصية. وفيه ما عنيناه من علاقة بين الذاكرة والمكان، التي هي مبنية على وحدة موضوع، تتطلب توحيد المشاعر بين المكان والذات، والذاكرة تلعب دوراً في تجسيد الخصائص للمكان "ذاكرتي تفاجئني دائماً وتجتذبني إلى مملكتها الشاسعة؛ مدن وتواريخ وأحداث". هذا البنيان المتراص بين الوحدتين "المكان والذاكرة" يُعطيان حيوية فائقة، لأنهما يستمدان حيويتهما ودفقهما من واقع مدون في صفحات المخيال الخالدة، وأمر استرجاعه يعتمد جدلية العلاقة بين الحيّز والزمان. ويتوفر نص القاص على عيّنات كثيرة ومؤثرة نقتطع منها النزر القليل:
{إن صدى حديث أمي ما زال يحتل بواطن سمعي. إنها تجد العزاء في نسج حكاياتها" مقابل " كان عزائي إحساساً رتيباً مدفوناً بلا جدوى}. ويكون النهر كمكان متحرك يتكرر في تأثيره الدائم على النموذج، فيكون له خير علامة للعزاء، أو ما نطلق عليه سد الفراغ " الخُرم"، {طفقت أحدّق باتجاه النهر. كنت أتابع جريانه بشيء من الشرود الذهني}.
في "عوالم جنوبية" يتجسد المكان، لا بصفته الذاتية، وإنما بصفته الموضوعية. فالجنوب حصراً تشكلات مكانية، تنطوي على تاريخ بيئي واجتماعي، وبُعد تراثي. لذا نجده يُعمم في توصيفه المكان، مما يكسبه خاصية واسعة الأبعاد. فهو ينطلق من العام إلى الخاص في التوصيف. ويكون المكان مقترنا بالقيّم التي يتضافر الإنسان مع المكان بخاصياته الروحية على تأسيسها بنقاء مبدئي. فالمكان في هذه الحال يؤسس لمبنى فكري خالص، وهذا ما شهدته حضاراتنا القديمة، بما منحتنا إياه من قيّم مبدئية ذات خاصية فكرية. فالقاص يقرن غياب هذه القيّم بسبب غياب المسبب الذي هو الإنسان العارف والمنتج للمعرفة "فقدنا الاستمتاع بخصوبة خياله المتقد وفقدنا الإحساس بحميمية الحوارات التي كان يديرها مع كائناته "ثم يعود ليؤكد" ثمة وقت يمنحني لذة التوقف عند فراغات الأمكنة الأشد حميمية والتي توارت بفعل الحروب "كل هذا كما ذكرنا مرهون بالذاكرة التي يحملها الإنسان كمفكرة ومدونة لسيرته، أن تحين اللحظة لحضور تفاصيلها. فهي ــ أي الذاكرة ــ وثيقة تعكس درجة رهافة إحساس الإنسان إزاء المتغيرات. لذا فإن المكان عند القاص مقترن بالتذكر والإحساس بالرهافة" حزم هائلة من الذكريات المخبأة، التي يمكن لنا أن نتأمل خلالها ملامح صبانا ووعينا المبكر "وأرى أن هذا رد على مصد اللاوعي اتجاه وعي صاعد. وهو ما ننعته بالمحو. فاشتباك القيّم في الواقع، أهم ما يحرك ملكة القص عند" الشريف" لذا نجده يستجيب لدوافع وضغوط نفسية تمد له جسور الربط بين حالتين، أو زمنين مترعين بالاختلاف. تلعب بوصلة القيّم دوراً ذي فاعلية حوارية ضمن النص القصصي.
ما نخلص إليه بصدد التوفر على المكان في النصوص، كان من باب معالجته عبر علاقته بالمبنى الفكري الخالص. فالأمكنة تخلق قيما، وهي كفيلة بتصعيد وعي الإنسان. وبهذا نجده ينتصر على نقاط ضعفه ببناء جديد. لذا فالمكان مقترن بالفكر. وهي صياغة وجدناها في اللقى الطينية التي حفظت لنا هذا الحراك، باعتبارها تأسيسا مكانيا، سواء في ذاتها، أو صيغتها التكوينية باعتبارها طُرسا.
شؤون قصصية
في نصوص "الشريف" توفر على وحدة عضوية، تخص ــ كما ذكرنا ــ المكان والبنى الفكرية. فإنسان النصوص يمتلك قدرة على التواصل في تقديم قناعات مبدئية وأخلاقية، تتركز في انثيال دائم لتشييد معمار النص. فالبنية الأساسية لكل نص ؛ هو تلك التداعيات ذات الخاصية الشعرية المرتبطة بالماضي والماضي القريب، وبلغة حذرة خوف التهاوي في المباشرة، وفقدان وحدة السرد. فأجوائه روحية بحتة، وانثيالاته تتبع نمطاً صوفياً. فهو لا يفرق في سرده ووصفه بين الإنسان ونتاجه القيّمي. فهي خليط متجانس. أرى أن النصوص كُتبت في زمن صعب جداً. وهذا ما ظهر على أسلوب وبناء كل نص، لكنه في المحصلة النهائية حافظ على وحدة موضوعه. وهذا ما انعكس في مجموعته الثانية التي أعاد طبع بعض نصوص المجموعة الأولى، التي وجد فيها، كما وجدنا نحن كمتلقين. علماً أنه لم يغيّر في النصوص ضمن كلا المجموعتين. وهذا يُحسب لصالحه، في أهمية هذه النصوص، التي تؤشر زمناً مقتطعاً من ماض قريب. كما وأنه أولى أهمية للبناء النفسي لنموذجه، فلم يبالغ في توصيفه. ولم يخرج عن تشكله العام والخاص. فهو ضمن دائرة مشغولية الفكر والتداعي التي يفرضها الزمن كحالة مفروضة لسد الفراغات المهيمنة على الشخصية، التي تحلم بالمكان المائي الذي انحدرت منه، أو غادرته إلى الأبد، مما يشعرها بالغربة والفقدان. كما وأنه يستمد من هذا ذاتية البيئة التي تُضفي خيالاً مرهفاً، تجنح اليه اللغة القصصية، المواكبة للحلم وشفافيته. اللغة تمتزج بالخيال من باب شفافية الحلم، مما يُصعّد وتيرتها باتجاه البُعد الروحي في تركيب جملته القصصية، والتي ترقى إلى لغة الصوفيين. فنكهة الماضي مهيمنة على النصوص كما ذكرنا سابقاً، لكنها في تواصلها تبرز معالم جديدة ذات صلة بماضي الأزمنة وحميميتها عبر التذكر الدائم "لو أستطيع فقط أن أتحاشى نبرات أمي الوجلة، وأصداء حكاياتها الشبحية التي ما برحت تطفو فوق فضاءات ملاذنا المغطى بظِلال الترقب المريب".
إن قصص باسم الشريف وثيقة مهمة لمرحلة صعبة تتداولها الذاكرة، لأنها من مهيمنات وجود الإنسان وتاريخه الأزلي، حاول القاص جمع ما يرمم هذا الوجود خلال ترميم فراغات وجودية الإنسان واغترابه، في محاولة منه لفرض الانعتاق الروحي والخروج من أحبولة القوى الظالمة والضاغطة. فهو قاص مرهف الإحساس. وهذا ما عكسته نصوصه ذات النمط الروحي المقترب من الحس الصوفي الحذر من عاديات الأزمنة وجورها.