ادب وفن

"قناديل جدي".. أسرار الكتابة للفتيان وفتنة القراءة / د. خليل شكري هياس

"قناديل جدي"، مجموعةٌ قصصيةٌ للفتيان، يشتغلُ مؤلفُها هيثم بهنام بردى بحسٍ سرديٍّ عالٍ وبتمكنٍ كبيرٍ من أسرارِ الكتابةِ لهذهِ الفئةِ العمريةِ الحرجةِ؛ التي تتطلبُ سماتِ فنيةً وموضوعيةً خاصةً تختلفُ عن أدبِ الطفلِ بقدرِ ما تختلفُ عن أدبِ الكبارِ؛ من حيثُ اللغةِ، والأسلوبِ، والخيالِ، وطبيعةِ الموضوعِ، وانتقاءِ الحدثِ، والشخصياتِ، وطريقةِ تناولِ كل ذلك سردياً؛ ليصل بنا في النهايةِ إلى فضاءٍ نصيٍّ يتناسبُ، ويحاكي عقلَ، ووجدانَ، وثقافةَ الفتى والفتاة من جهة؛ والغايةَ التي يريدُ أن يصلَ إليها في محاكاته عقل، ووجدان، وخيال هذه الفئةِ العمريةِ من جهةٍ ثانيةٍ. إذ لا شكَ في أن الكتابةَ الإبداعيةَ للفتيان تحوي في طبقاتِها النصيةِ خيطاً توجيهياً يحاولُ من خلالِهِ المبدعُ تغذيةَ الخزينِ المعرفيِّ والثقافيِّ للمتلقي/ الفتى والفتاة؛ كي يتحولَ في نهايةِ الأمرِ إلى سلوكٍ حياتيٍّ، كما لا تغفلُ طبقاتُها النصيةُ الجانبَ الفنيَّ واللذويَّ في القراءةِ الذي يجبُ أن يخفيَ ويواريَ الخيطَ التوجيهي في جنباتِهِ، كي لا يبدو النصُ درساً مكشوفاً في الأخلاقِ.
المؤشرُ القرائيُّ الأولُ الذي يلفتُ نظرَ بوصلةَ القراءةِ نحوهُ هو العنوانُ بكلِّ ما يحملُهُ من توجيهٍ، وإغراءٍ، وأفقٍ قرائيٍّ من جهة؛ وقيادةٍ قرائيةٍ بين ثنايا النصِ من جهة ثانية، ولعلَّ الموجهَ القرائيَّ الأولَ والأكثرَ فاعليةً في العنوانِ ينبثقُ من مفردةِ "القنديل" بما تحملُها من دلالة الإضاءةِ التي تقودُ إلى مدلولاتٍ تنويريةٍ تزيحُ الغموضَ وتكشفُ عن المجهولِ، وتقودُ إلى البيانِ والإيضاحِ، من أجلِ الوصولِ في النهايةِ إلى برِ الأمانِ؛ ثم تأتي المفردةُ الثانيةُ "جدي" لتدعمَ بقوةٍ كبيرةٍ هذا التوجهَ الدلاليَّ لما يحملُه الجدُ من خبرةٍ، وحكمةٍ، وتجاربٍ حياتيةٍ، تجعلُ لقناديلِهِ خصوصيةً تنويريةً أكبرَ من غيرِهِ الذي لم يختبرْ الحياةَ ولم تختبرُها الحياةُ؛ أما صيغةُ الجمعِ التي وسمتْ القنديلَ فجاءَتْ لتبوحَ للقارئِ بشكلٍ غيرِ مباشرٍ بأنَّ في جعبةِ الجدِّ الشيءَ الكثيرَ ليرويهِ.
إنَّ من أهمِ الميزاتِ التي تتميزَ بها نصوص هذه المجموعة، أنَّها تنبعُ من فلسفةِ الواقعِ، وعاداتهِ، وتقاليدهِ؛ من خلالِ محاكاتِهَا الواقعِ السير ذاتي للذاتِ المؤلفةِ التي تحضرُ فيها بمعيةِ بعضِ أفرادِ عائلتِهِ، لتسجلَ بذلك نوعاً أدبياً جديداً يمازجُ بينَ القصةِ الفتيانيةِ بكلِّ محمولاتِهَا وآلياتِهَا النوعيةِ؛ وبينَ السيرةِ الذاتيةِ التي تعدُّ نوعاً سيرياً خاصاً ينهلُ من زهرةِ الذاتِ، وتحملُ في طياتِهَا خصوصياتِهَا التقانيةِ المتمثلةِ في العقدِ القرائيِّ الموقعِ بينَ المؤلفِ، والمتلقي، على أنَّ النصوصَ تنتمي إلى الحياةِ الخاصةِ بالمؤلفِ، والمسمى بـ "الميثاقِ السرذاتيِّ"، والمتجلي –هنا في النصوصِ- بحضورِ هيثم بهنام بردى بذاتِهِ وتوقيعِهِ الشخصيِّ: "أرفعْ الورقَ يا هيثم.. وألقِ القلمَ"، وبحضورِ جدِّهِ: "الطمعُ يا أبو بهنام، الطمع"؛ وهذا الميثاقُ القرائيُّ الحيُّ يقودُنا إلى تقانةٍ سير ذاتيةٍ أخرى تتمثلُ بالتطابق بينَ "أنا المؤلف"/ "هيثم" الكائنِ الحيِّ المتواجدِ خارجَ النصِ، على لوحةِ الغلافِ، وأنا "هيثم" الشخصيةِ الرئيسةِ الكائنةِ في النصوصِ، وأنا "هيثم" الساردِ الذي يقودُ دفةَ السردِ؛ وهذا التوجهُ السير ذاتيُّ جاءَ ليجعلَ النصَّ أكثرَ إغراءً بالقراءةِ، لأننا نحنُ "معشرُ القراءِ" مجبولونَ دائماً بحبِ الفضولِ في كشف ذواتِ الآخرين، وكذلك أكثرَ قرباً من الذاتِ القارئةِ التي غالباً ما ترى ذاتَها في ذوات الآخرين؛ والمؤلفُ في هذه المجموعةِ إنما يكرسُ ما فعلُهُ في مجموعتِهِ القصصيةِ الفتيانيةِ السابقةِ "مع الجاحظ على بساط الريح" التي اقتربَ فيها كثيراً من السيرةِ القصصية الذاتيةِ، إلاّ أنه هنا في المجموعة الأخيرة دعمَها بالميثاقِ السير ذاتي ليعلنَ صراحةً انتماءها إلى هذا النوعِ الأدبيِّ الهجينِ من القصة الفتيانيةِ والسيرةِ الذاتيةِ.
أما على صعيدِ السردِ القصصيِّ الفتيانيِّ، فنجدُ حضوراً لافتاً للغةِ التي جاءتْ بأسلوبٍ سهلٍ ممتعٍ، وممتنعٍ، ومناسبٍ لطبيعةِ السردِ الجاري على وتيرةٍ تصاعديةٍ، تبدأ بمقدمةٍ تمهيديةٍ سير ذاتيةٍ تهيئُ القارئَ ذهناً، وعاطفةً، وفكراً، لما سيأتي في الحكايةِ/ المغزى، التي يتولى الجدُ سردَهَا، والتي تكونُ مستقاةً من واقعٍ بيئيٍّ محليٍّ تفوحُ منها رائحةُ التراثِ الشعبيِّ، وانتهاءً بخاتمةٍ توعويةٍ تهذيبيةٍ، تأتي في الغالبِ على لسانِ الساردِ الذاتيِّ بعد أن يعيدَ زمامَ السردِ من جدِّهِ. هذه الطريقةُ السرديةُ تعرفُ بطريقةِ السردِ التضميني التي تحوي في طياتِهَا قصتينِ على هيئةِ قصةٍ داخلَ قصة، القصةُ الرئيسةُ يتولى سردَهَا الذاتُ المؤلفةُ، والثانيةُ التضمينيةُ يتولى سردَهَا الجدُّ، في مسعى من الذاتِ المؤلفةِ دغدغةَ مشاعرِ القارئِ/ الفتى المجبولِ منذُ الصغرْ على حكاياتِ الجدِّ، والجدةِ، والأمِّ والأبِ، والتي تشكلُ عالماً ثراً في طبقاتِ مخيلتِهِ، وهذه واحدةٌ من الوسائلِ التي يلجأُ إليها كتابُ القصةِ للطفلِ أو الفئاتِ العمريةِ المقاربةِ لهَا.
وتتمظهرُ اللغةُ الفتيانيةُ على نحوٍ واضحٍ في الحوارِ الذي نراهُ حاضراً في القصصِ الثلاثة، ومحققاً اتصالها المرجو على الصعيدِ الفرديِّ، من حيثُ مطابقةِ اللغةِ، والأسلوبِ لطبيعةِ المخاطِبِ والمخاطَبِ داخل النص؛ وعلى الصعيدِ الجماعيِّ من حيثُ البيئةِ والمجتمعِ التي بزغَ منها هذا الحوارُ، وفي النهايةِ طبيعةِ المتلقي الموجهِ له الخطاب؛ مع احتفاظِهِ بعنصرِ التلقائيةِ الذي لا بدَّ من توافرهِ في الحوارِ الفتيانيِّ المختلفِ عن الحوارِ للكبارِ الذي يقومُ على القصدياتِ العاليةِ المنزويةِ في الأساليبِ الانزياحيةِ، واللغةِ العاليةِ المائلةِ إلى الغموضِ والتواري عن القراءةِ السهلةِ الواضحةِ أحياناً حسبَ الشخصياتِ المتحاورةِ؛ ليغدو في النهايةِ حواراً مقنعاً تتوافرُ فيه الدقةُ، والوضوحُ، والبساطةُ البعيدةُ عن السطحيةِ، واللغةِ الثرثارةِ؛ كما يحضرُ في النصوصِ القاموسُ الوجدانيُّ للغةِ التي تتجلى في اللغةِ الحميمةِ بين الجدِّ والأولادِ على طولِ مسارِ القصصِ الثلاث، وهو منحى آخرَ من مناحي النصِّ الفتيانيِّ الذي - كما أشرنا قبلَ صفحةٍ - يضمُ في طياتِهِ دروساً في الأخلاقِ والتربيةِ؛ والمؤلفُ في كلِّ ما تقدمَ لا يحيدُ عن اللغة الفصحى، مؤمناً أن الأصالةَ تبدأُ باللغةِ، ولا بديلَ لنا إلاّ أنْ نرعى هذه اللغةَ على لسانِ أولادِنا وبناتِنا، كي لا ينشأَ لدينا جيلُ معاقٌ لا يفقَهُ من لغتهِ شيئاً، ولا يقدرُ على التعبيرَ عما يتلجلجُ في داخلهِ من مشاعرَ وأفكارٍ بلغةٍ واضحةٍ وصحيحةٍ ومشتركةٍ بين الجميع.
وتحضرُ الحكايةُ الشعبيةُ بوصفِها عنصراً بارزاً ومؤثراً في السردِ الفتيانيِّ؛ نظراً لما تحملُها من موجهاتٍ إصلاحيةٍ وتقويميةٍ، وما تحملُها من نقدٍ مجتمعيٍّ للظواهرِ السلبيةِ، يكشفُها ويضعُها أمامَ القارئِ، من أجلِ الوصولِ إلى العبرةِ الرادعةِ، والإقناعِ بحقيقةِ الواقعِ المؤلمِ؛ وقد جاءَتْ بأسلوبٍ بسيطٍ سعى فيه المؤلفُ نحو الوصولَ إلى الهدفِ المرجوِ، وهو التأكيدُ على السمةِ الخلقيةِ للإنسانِ، وسعيِهِ الدؤوبِ للوصولِ إلى الحقيقةِ المقنعةِ التي يمكنُ معها تغييرَ السلوكِ المِعوَجِّ عندَ الشخصياتِ المنحرفةِ عمّا هو صائبٌ في الحياة؛ إذ نرى ذلك واضحاً في المتونِ القصصيةِ الثلاثةِ التي تكشفُ عن ساردينِ: هما الحفيد، والجد، الأولُ: يتولى سردَ القصةِ الرئيسةِ، والثاني: يتولى سردَ الحكايةِ الشعبيةِ التي تأتي بمثابةِ قنديلٍ من القناديلِ الحاضرةِ في العنوان الرئيس.
أخيراً نستطيعُ القولَ مطمئنينَ: إنَّ "قناديلَ جدي" مجموعةٌ قصصيةٌ فتيانيةٌ تسير بخطى ثابتَةٍ نحو التجريبِ والمغايرةِ، سواءً عبرَ هذا التوظيفِ الجديدِ القائمِ على التلاقحِ الاجناسيِّ بينَ القصِّ الفتيانيِّ والسردِ السير ذاتيِّ، أو التحايلِ الماهرِ في توظيفِ الحكايةِ الشعبيةِ التي تصبُ في نهايةِ المطافِ في صالحِ القصةِ الرئيسةِ "السير ذاتية" الموغلَةِ في الواقعيةِ، والماضي الزمنيِّ، الحاملِ لعبقِ كلّ ما هو أصيلٍ وجميلٍ وحي، في مسعى من المؤلفِ لإضفاء الحيوية والتشويق والإقناع على السرد.