ادب وفن

أرق جماعي.. المرأة شاعرة وقضية / احمد عواد الخزاعي

يقول الناقد الفرنسي ايبولت تين "إن القصيدة وثيقة لإنسان عاش تحت وطأة العرق والبيئة والدين".. أي إنها انعكاس لواقع اجتماعي، يفرض نفسه عليها، بأي شكل من الأشكال .. من هذا المنطلق أود تسليط الضوء على المنجز الشعري "أرق جماعي" والذي اشتركت فيه عدة أقلام شعرية من الجنسين كليهما ، كان لها بصمتها الجمالية الخاص بها، والتي تناولت عدة قضايا اجتماعية وسياسية، بثيمات متعددة ورؤى وانساق شعرية متباينة، عكست الواقع الاجتماعي والسياسي العراقي، وتداعياته النفسية على الإنسان فيه .. تميزت هذه المجموعة بحضور المرأة فيها كشاعرة وقضية.. وهنا سأقتنص من هذا المنجز الإبداعي، أربعة أصوات نسائية، كانت تمثل الحضور النسوي، في هذه المجموعة الشعرية المشتركة، والتي تميزت بنضوج التجربة الشعرية لديهن، على الرغم من عدم خروج معظم ثيمات نصوصهن عن حيز "الرجل" وجدلية علاقته مع المرأة:
1- قصيدة "لقاء" للشاعرة حياة الشمري: نص يبدأ باستهلال تقليدي، بتوجيه خطاب مباشر إلى الآخر "الرجل" عبر بناء هرمي طغت عليه ثيمة الانتظار.. امرأة تعيش لحظات انتظار مضنية لغائب يبدو انه لن يعود:
ألملم شتات الروح في قعر بوتقة خجلى..
وليس لأنفاسي قمر يشق عذرية فجرك كي أستريح...
يعترض سياق النص سؤال مهم، كمحاولة لوضع حد لهذا الشتات والضياع الذي سببه الانتظار:
فهل من عناق لمن أوهنه السفر..
وأضاع دموعه في شهقة الروح ؟
إن تكرار مفردة "صَدرك" هي إشارة إلى بؤرة التأزم في هذه العلاقة، والمسبب لهذا الانتظار غير المجدي، فالشاعرة تحاول الاعتراف بأنها تجهل حجم العاطفة التي يحملها ذلك الغائب في قلبه اتجاهها، وهل تستحق كل هذا الانتظار.. كانت لغة النص حداثوية، بدأت بفعل إرادة "ألملم" وانتهت بفعل إرادة آخر أكثر تأثيرا وفعالية، وهو فعل الأمر "أطلق"، أما إيقاعه فكان هادئا، حافظ على انسيابيته إلى النهاية دون إرباك.
2- قصيدة "شحوب" للشاعرة سعاد محمد الناصر: يبدأ النص بجملة خبرية تقريرية، تحمل إشارات فلسفية "شيء ما في دماغي قد تعطل"، عتبة شعرية خرجت عن المألوف، ومنحت النص بعدا إشكاليا جدليا، في عملية تبئير لمجمل المشاكل والإرهاصات التي تحيط بالإنسان، وهو يواجه السرديات الكبرى لعالمنا المادي المعاصر.. يدخل بعدها النص في فوضى فكرية، تحاول فيها الشاعرة إيجاد مخارج منطقية لحياة تظل رهينة شاخصين كبيرين هما "الحياة والموت".
أفكر في طريق إلى الآخرة...
الطريق سالك..
امن بلا حواجز..
لم يستوقفني احد...
أغلقته بين الحياة والموت...
في ظل هذا الهذيان الفكري، وكمحصلة للجدليات التي أثارها نصها، تخبرنا الشاعرة بان لا أجوبة لديها عنها، وإنها "المرأة" الإنسان تقف عاجزة عن فهمها أو تفسيرها، لذلك لا تجد غير قلمها وسيلة للإفصاح عن أحلام وتطلعات مؤجلة على أرصفة النسيان:
ليس لدي غير هذا النحيل..
الراكض على الورق..
خافت صرير قلمي..
أحلامه مؤجلة على الرصيف!
نهاية سوداوية لنص فلسفي جميل، وفقت الشاعرة في بنائه واختزال صوره.
3- قصيدة " ذاكرة" للشاعرة شذى اسعد: القصيدة الوجدانية هي لوحة سريالية تنطلق من الذات إلى الذات، عملية تفكيكها تحتاج إلى رؤية هورمونطيقية "تأويلية"، تحمل عدة أوجه واحتمالات، يقول الناقد عبد الاله احمد " إن الشعر في اغلبه محاولة للتعبير عن الذات، بعكس السرد الذي يكون موجه إلى الآخر".
تُستهل القصيدة بخطاب موجه إلى الرجل، في عملية تحدي لأزمنة متداخلة تجمع الماضي "ذاكرة" مثقلة بشهية نهمة للحياة، لكنها عرجاء في سباقها مع الحاضر والمستقبل، وهذا يعد تأسيسا إبداعيا خارج التأطير الزمني، أو كما أطلق عليه الناقد المغربي احمد الصلعي " القصيدة التي تعنى بالذاكرة".. لذلك نجد مفردة "أزمنة" قد تكررت مرتين في مفصلين مُهمين من النص.. الأول كان تشاؤميا، أسمته الشاعرة " أزمنة الموت":
أعاند بك ذاكرتي..
التهم القادم بشهية عرجاء..
تسابق أزمنة الموت...
والثاني أضفى جوا تفاؤليا عليه.. إضافة إلى إن النص حمل إشارات لعلائق اجتماعية حميمة متأصلة بإرث مشرقي، يمثل البيئة البكر التي انطلقت منها الشاعرة:
ورائحة الشواء الآتية
من أجنة
كنت قد خبأتها
ليوم ابيض
يشبه دعاء أمي
آخر السحر
وعطر البخور
المنبعث من أزمنة
تخطت مدن العتمة
4- قصيدة "آخر المرايا" للشاعرة ميادة العاني: يقول الدكتور جاسم الخالدي "إحدى وظائف الشعر هي بناء واقع جديد، واقع افتراضي موازي للواقع المٌعاش"..وفي قصيدة " آخر المرايا" نجد هذا الواقع قد تجلى بهجرة افتراضية عكسية تخالف المألوف، هجرة امرأة من مدن أدمنت الانتظار نحو المنشود التقليدي "الرجل":
ها أنا أتيك من مدن طال انتظارها...
بعدها يتأرجح النص بين هذا الواقع الافتراضي والحقيقة من خلال عملية وصف انطباعية لمدينة بغداد، انطلقت الشاعرة من التراث ليكون معيارا لتبدل واختلال الثوابت القيمية عبر الأزمنة:
"زمن البراءة"
من مساءات برائحة الرازقي والقداح..
من مقاه تعج بالعاطلين..
وصراخ الخاسرين في الطاولي والدومينو..
من أزقة بغداد العتيقة، من شناشيل لم يكسر الزمان حياءها..
"زمن الخوف والزيف"
وها أنت على حدود الخوف..
تفتح جوازات السفر..
أيها المتوسد آخر دكة في دروب الراحلين...
كانت الخاتمة اشبه بالقطيعة مع أصل المتن، ساهمت في تشظي البناء الحكائي للقصيدة، فقد حدث قطع مفاجئ في السياق على الصعيدين الفكري واللغوي، حين تحول الخطاب من المفرد "الرجل" إلى المثنى " الأب والأم" ومن ثم الجمع "أولئك"، وينتهي النص باستخدام ضمير المتكلم، كل هذا حصل بمعزل عن ثيمة النص الرئيسة وهي "الانتظار"، حتى بدا هذا المقطع وكأنه إضافة لا مبرر لها اعترضت النص وأربكته بعض الشيء:
خوف أمي ودمعة أبي
أولئك الذين حملونا وزر موتهم مبكرا
سأحمل عصاي كقائد اوركسترا وألوح بها
في مسرحكم الكبير الذي يخلو من الحاضرين
إلا أنا وشيء من قلق..