ادب وفن

خديجة السعدي: الثقافة لا تنمو في أرض قاحلة / حاورها :سلام القريني

التقيتها بعد التاسع من نيسان عام ألفين وثلاثة, بعد زوال جحيم الدكتاتورية وبطشها بالعراقيين المنتشرين في المنافي والفيافي والذين هم أيضا ذاقوا الأمرين غربة قاسية موحشة, ولوعة مرة وهم بعيدون عن الأهل والخلان, عقوداً من الزمن.
جاءت هذه السيدة المولعة بعشقها للعراق, لترى مدينتها التي غادرتها ذات ليل خوفا من عسس الجلاد وجبروته, لتحفظ سرا يعز عليها البوح به.
هي أم شيار الشيوعية البطلة، شقيقة الشهيد الشيوعي المقدام "عبد الزهرة السعدي" الملقب "بالشرطي"، صاحب ردات عزاء العباسية الشهيره, كانت ومعها الشاعر عادل الياسري كلها نشاط وحيوية في وضع حجر الأساس لمشهد ثقافي جديد في كربلاء ذات العبق التاريخي الساحر الجميل، التي وصفها الشهيد الراحل كامل شياع خلال زيارته الأولى لها بانها ولاّدة بمناضليها وأدبائها وفنانيها، زاخرة بالطقوس والآثار, والناس فيها من كل الأجناس، فهي الميناء بعينه.
وللتعرف على هذه الشخصية الأدبية كان مبعث سرورنا وهي تدلي باضاءات لجوانب من مسيرة حياتية ذات صلة بواقع متحرك فكان هذا اللقاء.

 بداية السبعينيات من القرن الماضي مثلث الوعي في العباسية الشرقية والشهيد عبد الزهرة ؟
-صعب, الحديث عن كربلاء لأنه مليء بالشجون, الذكريات الجميلة المصحوبة بالمضايقات الأمنية للعائلة التي ابتدأت بها حياتي أو بالأحرى طفولتي الواعية، كل الأحداث جرت أمام ناظري في مرحلة الابتدائية وما بعدها، وحين تبلور وعيي بشكل أكبر وبتأثير موجه من والدي وأخي الشهيد أصبحت أفهم الواقع بشكل مختلف, لقد أحببت مدينتي ومحلتي العباسية الشرقية أم الفقراء, صار ينال اهتمامي كدح الناس، الفوارق الطبقية، شعرت بها قبل ان أتناول كتابا ما يجيب عن تساؤلاتي المبكرة، اي تلمست طريقي من واقع معاش وليس من بطون الكتب.
ولكن عندما وصلت الى المتوسطة والإعدادية تغير الأمر كثيرا، فقد كان "عبد الزهرة" طرفا في إيصال أمهات المصادر في الفلسفة والاقتصاد الاشتراكي والرأسمالي، وأخرى فتحت آفاقا للمعرفة، مما جعلني أقف إلى جانبه واستمد منه، وأشاركه في أغلب الأحيان أفكاره وما يتصوره عن الواقع. لذلك قتله المجرمون.

أنت مولعة بكتابة القصة، وأكيد أن "العباسية" او كما يسموها دوما في كربلاء ب "موسكو الصغيرة" خزين لا ينضب للصور والأحداث التي يمكن أن تكون أعمالا عظيمة؟

-حينما كنت في المتوسطة كتبت قصصا نالت اعجاب مدرساتي وصديقاتي، كانت أفكاري جامحة، أخرج عن نطاق الواقع وكأني أبحث بعيدا عن طرق للخلاص ومن عالم غير عالمي، أهيم بالخيال.

 أكيد كنت متفوقة بدرس اللغة العربية؟

-صحيح, كنت أحصل على أعلى الدرجات في مادة الإنشاء, وهذا كان يشجعني على أن أواصل الكتابة, وفي الثانوية كتبت الشعر وكان الشهيد عبد الزهرة باعتباره كاتب "ردّات" يصحح لي كل ما أقرؤه له، ولأني "بنت العباسية" وأهلها الطيبين، كنت مع صديقاتي نتجول بمرح كفراشات هائمة، لم نكن نشعر بالحرج، لا من قريب ولا من بعيد, كل شيء يشعرني بالجمال, صورة الأمس لازالت ملتصقة بوجداني. وأنا أتجول اليوم بين شوارعها، أشم عبق الماضي والحاضر، وانسج علاقة من نوع مختلف للمستقبل البعيد.

 هناك من كتب عن الراحل عبد الزهرة وعن الردات التي كان يهتف بها موكب عزاء العباسية الشرقية، مامدى التأثير الذي تركه على اعمالك القصصية؟

-أولا الحديث عن أخي الشاعر الشهيد لا ينتهي, فهو الأمل.. الضياء الذي أنار دربي، هو صاحب الفكر الوقاد، الثائر الجسور المتحدي أبدا.. كان لا يقبل بالظلم, يحب الفقراء وينتصر للمظلومين، حاربته السلطة الغاشمة حتى غيبته, يكتب شعرا سياسيا رائعا، يستنهض الجموع في المواكب الحسينية كمايكوفسكي، فتحتشد الجموع في صفوف تردد شعره الذي بمجمله تعبوي من طراز فريد ضد النظم القمعية الفاسدة، لازالت رداته يحفظها الصغار والكبار ليومنا هذا، فهو خالد في ذاكرة وقلوب الناس. لقد ترك بصمة عظيمة في نفسي لا تمحى أبدا.

 بعد استشهاده بدأت رحلة الغربة؟

-الغربة داخل الوطن اولا. في نهاية عام 1978م تركت كربلاء واتجهت الى العاصمة بغداد, بقيت عند الأصدقاء قرابة السبعة أشهر متخفية، بعدها التحقت بكردستان مع آخرين مشيا على الأقدام، وركوبا على البغال، اجتزنا الحدود إلى إيران ومدن مهاباد، ثم إلى بيروت، بعدها الى دمشق، ومن هناك الى موسكو لدراسة الصحافة، بعد معاناة وتشرد كلها أصبحت تشكل لي رصيدا ضخما, مليئاً بالصور والذكريات، وبالفعل أثمرت عن أعمال أدبية، حين أتذكرها الآن أشعر وكأني قمت برحلة استكشاف لعوالم مختلفة، كما أشعر بالفخر بإدانة النظام في ذات الوقت.

 واستمر الترحال والتجوال في المدن والبلدان والأمصار الى أن زال نظام القهر والاستبداد تماما، لتبدأ رحلة العودة الى الديار حيث الحنين الى الأحبة والخلان

-بعد السقوط مباشرة، بالضبط في نيسان 2003م دخلت بغداد وفجعت برؤية شوارعها الحزينة ونهرها الذي تحول إلى كائن آخر, كل شيء كان كالحا وجوه الناس المغبرة، ذاكرتهم منسية، مجرد أشباح، لقد سرق النظام ابتسامة الجميع، لوث الابصار والأذواق.

 السؤال المهم كيف نستطيع أن نعيد البسمة والحيوية لتلك الوجوه؟

-بالعمل، أكيد يجب أن نبني ما هدّه المجرم طيلة عقود، في هذا الوقت كتبت الى جريدة طريق الشعب بعض ما ظل عالقا في ذاكرتي، ورجعت الى سوريا للمشاركة في مسابقة شبعاد التي اقامتها جريدة الزمان.

 هل فزت بالمسابقة؟

-نعم, واشتركت في الدورة الثانية حيث قدمت بحثا عن المرأة، وفزت بالجائزة للمرة الثانية، وشاركت في حفل التكريم للعشرة الأوائل.

 جميل, وحسب علمي كان هناك مشروع إصدار مجلة أدبية في كربلاء بالتعاون مع الشاعر عادل الياسري والشاعر الراحل هادي الربيعي؟

-نعم, في احدى زيارتي لكربلاء حاولت جاهدة ان اخدم مدينتي ووطني فالتقيت بالكثير من المهتمين بالأدب واستطعت ان انجز معهم اصدار مجلة دورية تهتم بشؤون ثقافة كربلاء, صدر منها ثلاثة أعداد مطبوعة وأكملنا العدد الرابع والخامس، لكننا لم نستطع طبعه والسبب يعود الى استشهاد من كان يدعمنا بشكل مباشر وغير مباشر، هو ابن كربلاء البار الشهيد (سعدون).. وضاح حسن عبد الامير . الشهيد وضاح كان معي في مدينة مينسك، ترك الدراسة والتحق بقوات الأنصار، كانت علاقتي به قوية جدا، حتى كان يقول للطلبة العرب: انها اختي من أمي, الرحمة لروحه المضيئة، لن أنساه ما حييت, قبل استشهاده قال لي: لا تهتمي خذي راتبي واطبعي المجلة.

 صعوبات عديدة واجهتكم في استمرار اصدارها؟

-نعم, اضطررت لجعلها صحيفة الكترونية بمساعدة ولدي شيار وبشار.

 كيف تجدين المشهد الثقافي بعد أكثر من عشر سنوات على سقوط نظام البعث الدموي؟

-مهمل.. مهمل, من يقود العملية السياسية يتعمد جعله تعيسا ومهمشا ومؤلما، يعملون وفق مفاهيم ورؤية تخدم فقط مصالحهم الذاتية, الثقافة لا تنمو في أرض قاحلة جرداء.

 أنت الآن في كردستان مع هجرة جديدة ولكن للداخل, ما هي مشاريعك القادمة؟

-سأكتب لطريق الشعب مواضيع تخص صفحة المرأة، كما بدأت النشر على صفحات "الفيس بوك" وأشياء أخرى.