ادب وفن

قراءة في:"سالت الموسيقى من جرح الغزالة" 2-3 / كريم ناصر

في حالة كهذه يبقى التكرار في العمق ظاهرياً وبنائياً رهيناً بصيغته المحايدة، ولا يمسّ المعاني أو علاقته بها، ولا يجعل تغليبها على الشكل مستحيلاً، غير أنَّ تكرار الجملة في مكانين متباينين أو تكرار الكلمة في فقرة، فإنما يأتي حصراً من (إعادة إيراد اللفظ) لننظر كم تكرّرت مفردة اللبوة في قصيدة قصيرة جداً:
"بعد أن افترست اللبوة جميع الغزلان
صانعة منها أشبالها
إصطادت اللبوة آخر غزالة في تلك الجزيرة،
افترستها
ولكن بعد بضعة أشهر
ولدت اللبوة غزالة"
(مناعة الغزلان)
ليست مفارقة لو اكتشفنا في المستويات البنائية صوراً متشابهة في تركيباتها، إذ يوجد هناك هوسٌ شكلي لم يُتخلّص منه، يبدو وكأنه تقليد لا يتردّد أن يظلّ الشاعر أسيراً له.

في الإطار الإنساني:

الشعر هنا حسب جان كوهن (أثر جمالي) وعندما ترقى التراكيب البنائية إلى مستوى الشعرية، تكون الدلالة حينئذ مظهراً لتحقيقها، وهذا ما يجعل إمكانية التغيير تندرج في إطار الحريات الانسانية، يمكن أن نلاحظ ذلك في قصيدة (حبة الرمانة قلب بلبل) ص32 وغيرها من صنف ما سبق:
"أرحل إلى الكائنات المفترسة
أفرغ غددها من السم وأملأها بالحليب
أخلع أنيابها وأمنحها أسناني اللبنية لتضحك مع بعضها:
(أرحل إلى الكائنات)
"شعرت الغزالة أنها حبلى
عندئذ أدرك الأسد ذلك
فتوقف عن مطاردتها"
(غزالة عقيم تبحث عن ملاذ)
وإليكم المثال عن الرجوع الدائم إلى طقس الطفولة وتأثيره البالغ:
"أتمرّن لاستعادة المذاق للساني
ولذّة البكاء لعيني
أتمرّن أتمرّن
لعليّ أستعيد طفولتي"
(أتمرّن أتمرّن)
أمّا النص الموسوم (مخ الدبابة) فما هو إلاّ جزءٌ من معادلة حسابية تعاكس النسق، وتفكّك بناءه المعماري لإعادة صياغته بطريقة سيميائية. إنّ هذا التناقض يعدُّ في حقيقته خرقاً لبديهيات أساسية، يمكن أن نعدّه أيضاً إنزياحاً بنائياً ضرورياً، واللغة تجسّد تحوله وتشدّد على استبدال المواقع لتستعير دلالاتها من معانيها الطريفة:
"جلس الانسان في جمجمة الدبابة كمخ لها
وذات يوم وهو يقود آلته في الغابة وجد تمساحاً
فوضع مخ التمساح في جمجمة الدبابة وجلس هو في جمجمة التمساح" ص33
(مخ الدبابة)

شعرية الدهشة سمة تتوّج النهايات:

ترجع شعرية الدهشة إلى الغرابة في التصوير.. إنَّ الدلالة تفيض بالشعرية، وبهذا المعنى فالاغتراف من أعماق الانسانية توفّره جدارة الشعر، هذه الظاهرة يمكن أن تستثير فينا العواطف نحو كائن صغير كالصوص، والحق أنَّ التركيب انزياح لغاية جمالية لا تعدو أن تكون تعبيراً قوياً في فن الإدهاش وتأويل الصورة.
"فيما كان الصوص الجائع ينتظر أمه
إشرأب رأس الأفعى على العش
فرفع الصوص رأسه فرحاً
ظانّاً أنّها أمّه وقد أتته بالغذاء
إبتلعته الأفعى
مات الصوص فرحاً"
(الأفعى والصوص)
فالصيَغُ الشعرية تحتفظ بمعناها الدلالي، والتسلسل المعماري من شأنه أن يزوّد النص بجمالية الأشياء، ومن ضمنها جمالية الدهشة كاستنتاج شعري يساعد في إشاعة المختلف، وهذه خاصيّة جوهرية لا تخضع لمعيار محدّد، لأنًّ مبدأها الأساس الانزياح عن اللغة الشائعة أو عن اللغة في أغلب الأحوال:
"تحت شجرة الرمان كانت الحبارة نائمة في مختبر الطبيعة
تقطر خيمياء بيضتها" ص44
وإليكم الأمثلة عن فن الادهاش (5):"انفجرت رمانات الشجرة
تناثر ورد أحمر سائل
غطّى حقل القطن"
(تحت شجرة الرمان)
"بلغ الأطفال وتركوا القزم طفلاً
فصاحب أطفالاً جدداً
لكنهم أيضاً أصيبوا بداء البلوغ"
(طفل يبحث عن أصدقاء دائميين)
"عثرت صدفة على أغاني أمي"
(أرق)
نلاحظ أنّ الغاية التي يسعى إليها الشاعر لا تبتعد في نظرنا عن المقوّمات الجمالية، ونظراً لكون السرد سمة ظاهرة، لذلك من الصعب الجزم على (استحالة صوغ) الشعر أو إثبات وجوده، فكلّ بنية جمالية تكون رهن عوامل متفاوتة، لكن تبقى قوّة الدلالة تجسيداً أصيلاً لغرابة التعبير (6) وإنسانية الفكرة، ولو لم تمثّل الدرجة القصوى للإنزياح الشعري:
"حضنت الفتاة البيض بين ثدييها مغطية إيّاه بشعرها الطويل
وأخذت تدفئه بأنفاسها الحارة"
(الطفل الذي عاد إلى رحم أمّه)

جمالية سريالية جمالية فوق واقعية:

ليست الاستطيقا إلاّ إشارة لخرق اللغة، وعليه فلا تُحدّد اللغة ضمن الأسلوب، ولا تمثّل جزءاً من منظومتها، وبهذه الصفة يلجأ الشاعر إلى استحضار الصورة المثالية بوصفها الآلية لبناء المعنى، ويلحقها بدلالة أو مفارقة مكوّناً جمالية سريالية (فوق واقعية) تشير إلى النغمة الانسانية وعمق وظيفتها، لنتأمّل هذا البيت:
"فيبدو حقل الثلج ثدياً جريحاً"
(دماء الغزالة أسماك مصطادة)
أو هذه الأبيات:
"بيضة الطير غيمة
جفّت الغيمة
فطارت السمكة"
لنتأمل هذه القطعة الشعرية:
"نحن الطيور نحلق في الفضاء
ونلقي بيوضنا على قنابل الانسان النووية فتخمد"
(بيضة الطير فقست عن موسيقى)
الشعر يسمعهُ الماء والشيطان والملاك وتسمعه العاقر والعذراء والأسماك والأفعى والبذور، وبمجرّد ما يسمعه الماء فيستحيل خمراً تسكر الإله، وحين تسمعه الكائنات الأرضيّة يتحوّل إلى سوناتة أو قيثارة..
عندما تكون النتيجة فوق واقعية:
"فالبذرة المزروعة بالجثّة نسجت الجثّة إلى وردة"
"لو كان للأفعى ضرع لما كانت لها غدّة سميّة"
(الشعر إكسير)
عندما تخضع الجملة لاختبار سريالي
"ثم جاءت غزالة أكلت الجبل الذي أجلس في لبّه
وشربت خمره، إبتلعني فمها وخرجت جنيناً من ثقبها الأسود"
(خرجتُ من ثقبها الأسود)
"كان عش العصفور فضاء واسعاً
غير أنه خال من أيّ كوكب"
(عشّ العصفور العقيم)

عندما تدخل الثيمة في نطاق الفن الجمالي الانساني:
"معجزة الشعر تحيل التنّين إلى فراشة والقنبلة النووية إلى قيثارة
وغدّة الأفعى إلى ضرع"

عندما تغدو الموسيقى منطقاً جمالياً للذات:

"فصرت موسيقى لا يراني ولا يسمعني أحد سواي"
(الشعر إكسير)
سلسلة من الصراعات تغلبُ على التراكيب اللغوية، وهذا ما يحصل فعلاً، وكأنّما تغدو الصراعات الجارية الأفقَ البنائي الذي يقوم عليه السرد الشعري، ولا يفاجئنا الشاعر بشيء دلالي، إلاّ في النهاية لجعل اللغة غاية لصيرورة الشعر وانزياحاته العميقة، انطلاقاً من صراع الكينونات بأسلوب فوق واقعي:
نقرأ في سرد الشعر:
"هضمتني فحولتي إلى ريش جميل وألحان"
(عين غزالة باتساع السماء)

سنلاحظ إنسيابية دلالية في النهاية :

"كما هبط ضرع كالكوكب وهب حليبه غذاء لكائنات الأرض"
(عين غزالة باتساع السماء)
صيغة التمزّقات حتمية الصراع:
تكوّن التعابيرُ المتسلسلة كما نعرف مادة المعنى، لكنَّ المأساة تتفاقم لتصنع الدراما الانسانية، وهكذا عندما تفقد الآلة الصناعية وظيفتها الدلالية، تتحوّل تدريجاً إلى صيرورة غير معبّرة لا يوافق عليها المنطق، ولكي يتحقّق الشعر يسعى الشاعر إلى خلق صيغ تركيبة متساوقة، تصبح حينئذ موضوعاً لمحاولة الخروج عن الجوّ الملتهب، بُغية الولوج إلى جزئيات الأشياء بوصفها حلاً، وبهذا يعيد صفة الرجوع إلى الأصل والعودة إلى النقاء الأول كاستنتاج نهائي:
"أيّها الانسان عندما تموت تعود جنيناً
ينحتون لك رحماً في لبّ الأرض تنام فيه"
"عندما لدغت آلتك الوردة سالت الموسيقى من ساقها"
"الموسيقى تجري في ساق الوردة
وعندما تقطع الوردة تسيل الموسيقى من جرحها
يسيل الدواء"
(سالت الموسيقى من جرح الغزالة)
وقد يحدث أن تسمح بعض القصائد باستئناف صيغة التمزّقات، ويمكن أن تخبرنا بحتمية الصراع لتصبح جدلية مقبولة في نهاية المطاف، إنّ هذا المبدأ نفسه لم يسلّم به عندما تتراجع المعطيات الانسانية :
"لكن بعد مضي الصباح كرؤية السمكة المصطادة للنهار
ترى الكائنات منسرها أو نابها
أو خنجرها"
(في لحظات الفجر الصافية)
"مسوخ عملاقة أرعبتها آلات الانسان الحديث
فاستحالت إلى فايروسات لا ترى
استوطنت أحشاء الإنسان"
"في موسم هجرة الطيور
رأيت قفصاً طائراً في الفضاء
وكان ثمة عصفور مسجون فيه"
(هجرة)
فإنّ السعيَ لتأمين الذات يكمن مرّة في الرحم، ومرّة في القبر، ومرّة أخرى تصبح الذات البشرية إنساناً على الأرض يستحيل عليه تحقيق ما يُريد:
"حلمت أنني إله في السماء
فيما بقيت ذاتي البشرية إنساناً على الأرض
فكان يدعوني أن أحقّق له كل ما يحبه
فكنت أحقّق له كل ما يكرهه"
(حلمت أنني ميت)