ادب وفن

قراءة في: «سالت الموسيقى من جرح الغزالة» 3-3/ كريم ناصر

كثيراً ما يُهيمن السرد على الشعر ولا ينفصل عن سياقه بسهولة، هذا الاختيار هو (المعيار الموضوعي) الذي يسير عليه الشعر ويرتبط بجوهره، وبهذا يجعل الشاعر من قضايا الدراما الانسانية على وجه التحديد ثيمة لتشخيص ما يسمّى إنحرافاً أو تمزّقات تراجيدية:
"سوف تشحن جميع هذه الجمال إلى ساحة الحرب لتفجّر الألغام، رأيت صورة الجمل المعلق في عين الحمار، رأيت دماً يقطر في عيني الحمار إثر مشهد ذلك الجمل المعلّق تذكرت العصفور الذي أخذت بيوضه من عشّه.. كان عشاً صغيراً محبوكاً بعناية من الأعشاب الجافة، وكانت فيه أربع بيوض التقطتها من العش وكسرتها أمام عيني العصفور فيما كان يحوم حولي بسرعة فائقة محاولاً بث الخوف فيَّ لينقذ بيوضه، لكنه لم يفلح في ذلك فأخذ يصدر ألحاناً حزينة..
كمنت عند النهر فجاءت غزالة حبلى فاطلقت عليها النار قبل أن تشرب الماء وعندما ذبحتها ثم قطعت أحشاءها وجدت جنيناً في رحمها كان تام النمو، ولو أنني أمهلتها ساعة لولدته بسلام"
(رجل الصحراء)
نقرأ هذه الجملة في إشارة سيميائية إلى الآلة:
"وعندما سأل أخاه أين أعضاؤك
أشار قابيل إلى أصناف من الآلات كانت تصخب حوله"
(عودة هابيل)

الأفكار والمعاني:

وعليه لا يكتفي الشاعر بملمح شكلي معين، ولا يبقى الموضوع مرتبطاً بلعبة شعرية مُعبّرة، بل إنّه يرقى بالشكل التعبيري إلى درجاته العليا، لتجسيد الفكر للوصول إلى إكتشاف دلالي:

"إستيقظت الطيور فلم تجد الانسان ولا حضارته
قال طير لشجرة
فكر الانسان مسخ الإنسان إلى فكر"
(فكر الانسان مسخ الانسان إلى فكر)
وقد تتسامى لغة الطبيعة لتصبح صيَغَ أفكار، فالشعر عنده خطاب جوهري لا يناقض مضمونه الفكري، لأنّه يحمل في جوهره معانيه الكاملة، والمفارقة تسجّل في نهاية النص، حيث يبادر الشاعر بها لتغدو النتيجة ايجابية، وذلك في صيغة شعرية لا تستغني عن علاقتها بالمعنى:
"أدرك الجميع سن اليأس،
لكنهم فوجئوا أن التماثيل تلد أطفالاً بشرية"
(في انتظار المعجزة)
وسنرى أنَّ التحليل سينال النص لانطباقه الكامل على مستويات شبيهة.
نقرأ في تقريعه للسياسي والجنرال:
"أيها الجنرال
ثمة غدّة نهمة خلف عينيك
فعندما تفرح أو تحزن
يسيل الحسد من عينيك"
(السرداب)
ونقرأ في الاطار الفكري:
"لو ذرفت الأفعى دمعة واحدة
دمعة واحدة فقط
لما كانت لها غدّة سمّية لها أنياب"
(دموع)

القصيدة الدلالية وسياقها الجمالي:

تتحقّق الوظيفة دائماً بفضل الامساك بالدلالة، وما تصوير الآلات على هذا المبدأ إلاّ صيرورة تخبرنا أنَّ ما لدى التراب من الأمومة يكفي لإذابة الحديد الصلب وصهره ليغدو شجراً مثمراً:
"لدى التراب من الأمومة
ما يكفي لأن يذيب كلّ الآلات
وينسجها أشجاراً"
(أمومة)
وربما لا تنتهي الجُمل المصوغة إلى مدلول واحد، بل تجعل من مادتها سمة منفتحة على مدلولات يمكن استنباطها بعد قراءة متأنية، وما المطر إلاّ صفة للطهر غايته مجازيّة، وما يغلبُ على الصحراء من مزايا تصبح خلاصة غايتها القصوى مجازيّة لا تخلو من التحدّي:
"صحراء حلمت بكل الكائنات
غير أنها لم تحلم بالآلة
هبط المطر على الأسلاك الشائكة"
(صحراء)
نستخلص من عبارة الصحراء في قصيدتي (ظلا طفلين إلى الأبد) و(في الصحراء) أنَّ أصلها إستعارة رمزية، وهي لا تتميّز بكونها تمثّل الفضاء الخالي، بل إنَّ الامر يتعدّى هذا المفهوم، فالصحراء تمثّل في الأغلب الأعمّ الحاضنة الجوهرية التي تتمخّض عنها الصورة المبتكرة للبعث الشعري. وهكذا منح الشاعر صفةً التوليد للصحراء لتكون لها دلالة، في حين لم يتعرّض للدراما الانسانية النمطيّة، وذلك ليجعل المضمون معياراً لمادة الشعر.
كلّ النتائج تأتي جاهزة في النهاية، وقد يدرجها الشاعر لغاية مبرّرة، وهذا يفسّر أنَّ المعاني تكمن في تراكيبها التي تظهر أمامنا بالتدرّج وتتجسّد قيمتها من دلالاتها التعبيرية:
"لدغت الأفعى السمكة فماتت الأفعى"
(موسيقى حمراء)
ويمكن أن تنمو المعاني في جوّ الحرية، والثيمة الرمزية ليست عائقاً بتاتاً، لكنَّ التأويل الصحيح يُرجع الشعر إلى سياقه الجمالي لتصبح الدلالة سمة ضرورية..
"وتنتمي إلى هذا الصنف أعمال ذات اعتبار جمالي مثل أغاني ما لدورور أو فصل في الجحيم، وذلك يدلّ على أنّ العناصر الدلالية تكفي وحدها لخلق الجمال المطلوب"

لنقرأ معاً:

"إنفجر بركان في موقف الآلات
وعندما اقتربنا منه
إتّضح أنه بركان من الورود"
(بركان)
"وفي آخر ليلة من موسم وضع البيض
قبيل الفجر
وضع الوقواق بيضة في عش العصفور العقيم"
(عش العصفور)
"لبّ الأرض قلب ينبض
بيوض عصافير
محارات،
بيوض أفاع"
(لبّ الارض)
"كانت الثمرة فرحة في فم الغزالة
كثدي في فم رضيع"
"فيما كانت اللبوة الجائعة تطارد الغزالة
وجدت جنيناً يتيماً
توقفت اللبوة تتأمله
فابتسم لها الجنين ظاناً أنها أُمّه
أرضعته اللبوة ضرعها فارتوت"
"إنها لحظات يمارس الكون استمناءه في ديمومته"
"بعد أن قتل الصيّاد الغزالة
ظلّت صغارها تبكي موسيقى
فانفجر ينبوع حليب من الأرض"
(الغزالة والأسد)

التشبيهات وجدل الشعر:

والحق أنَّ الصورة الشعرية قد تترك أثراً جمالياً على درجة عالية من الدقّة، إلاّ أنه وفضلاً عن ذلك كلّه لا تجعلنا التشبيهات الصورية نحسن عمق دلالتها لاستخلاص الأشياء المعبّرة، هذا الشيء يمكن أن نلمسه لو دقّقنا في السبب..
ففي قصيدة (صحراء) ومثيلاتها من القصائد الكثيرة المنتشرة في الديوان، من السهل أن نكتشف كاف التشبيه الواردة في وحدات كثيرة، وذلك ما يضع الشعر في موضع جدل:
لنتأمل هذه الأبيات كما هي مكتوبة:
"صحراء كبذرة نبات بحجم الكوكب
في لبّها معرض لرسوم الأطفال
صحراء سطحها كقشرة البيضة"
ونقرأ هذا الوصف الجمالي ضمن نفس المحاولة:
"ثمرة مليئة بدموع لذيذة كدموع الأطفال"
"تحت الكثبان الرملية الشبيهة بأرداف النساء
كانت البذور نائمة تحلم)
(الأرض مرتوية كوجه طفل"
ما يجعل السرد الشعري متلائماً مع التتشبيه:
"كائنات الصحراء لا تشيخ
كالحب في قلب المرأة
بشتى مراحل عمرها"
(صحراء)

استئناف النسل كتحصيل حاصل:

والحال أنًّ التقمّصات بالتحديد تعدّ واحدةٌ من الاستعمالات الباهرة في الكتابة، ويزيد الأمر مفارقة أنَّ الأرواح تحلّ في الأجساد، وقد تتحوّل الظواهر الجامدة التي لا ترمز إلى شيء دلالي إلى عناصر جوهرية حيّة مرموزة تستأنف فعالياتها من جوهر الفن الشعري مثل:
"طارت روحي بجسد هدهد
فيما ظلّ جسدي على الأرض وقد اتخذ شكل نسر
لكنه نسر دون أجنحة"
"هذه الكمثرى التي أكلها كل يوم
وأحلم
أن روحها تتماهى مع روحي
متخذة شكل طير"
(إستحالت إلى هدهد)
لاستئناف النسل كتحصيل حاصل:
"وماهي إلاّ بضعة شهور حتى صارت البذرة امرأة"
(في السجن)
أمّا الولادة فتعني بالتحديد استمرار الكينونة:
"وجدوه جافّاً على زوجته
فيما كانت هي حبلى به"
(لاذ برحم زوجته)
هكذا يكشف الصراع الفكري عن رؤية ينتفي بفضلها الخطر المحدق بالكائنات عن طريق التجلّي من أجل استئناف النسل للبشر المذهلين بيولوجياً، وتقوم هذه الجدلية على بديهية سرديّة مجرّدة من التقنين اللغوي، أقل ما يقال عنها إنّها تمثّل خرقاً في مجال الصياغة.

ولكي يبقى النسل نموذجاً:

"مثلما تنفجر البيضة عندمات تفقس
إنتفض من التراب الذي يخفي الفخ طير من فصيلته"
(مارس الطير الحبّ في الفخ)