ادب وفن

رحلة ألفريد سمعان في قطار الموت / زهـدي الـداوودي

كتبت قبل فترة قصيدة من الشعر الحر تحت عنوان "قطار الموت" مهداة إلى ابني. وأعني به الجيل الجديد، الذي تبين لي أن معلوماته غير كافية، بل ناقصة جداً حول ما سمي بقطار الموت الذي هز العراق كله في العام 1963. وفيما يلي المقطع الأخير من القصيدة:

هذه هي القصة يا بني
سواء تصدقني
أم لا تصدقني
بيد أن ما تقشعر له الأبدان
إصرار
أمير الأمراء
المنزوي
في حفرة
داخل مزبلة التاريخ
على العودة
إلى عرشه المنهار
فماذا تريدنا أن نفعل مع
مريديه؟
أحدثت القصيدة تجاوبا كبيرا بين قراء المواقع في حينه، وراحوا يكتبون التعليقات حول الموضوع الذي يعتبر تاريخا مجيدا للمناضلين. وكان من بين هؤلاء الشاعر الكبير والمناضل يحيى السماوي الذي أترك الكلام له:
ها أنت يا سيدي ترجع بي إلى الربع الأول من عام 1963... كنت آنذاك صبيا في الصفوف الأولى من دراسة مرحلة المتوسطة.. فوجئت بعمي بائع اللبن المرحوم " عبد الأمير " وأبي يحملان "سطلين" من اللبن "الخضيضة" والماء يطلبان مني مساعدتهما بحمل " رقية " كبيرة اختارها أبي من كومة الرقي في دكانه الصغير الواقع في سوق السماوة المسقوف. أتذكر أن المرحوم " عبد الحسين افليسْ، وكان أحد أشهر الشيوعيين في السماوة، " كان يصيح في السوق وهو يهرول :"يا أهل الغيرةْ والشرفْ ساعدوا إخوانكم الأحرار في المحطة ".
وصلنا المحطة لنجد أهل السماوة قد حطموا أبواب عربات قطار الشحن وثمة نحو 500 رجل كانوا منهكين على أرصفة المحطة، يحيط بهم أهل السماوة ويحرسونهم حاملين "التواثي" والسكاكين والعصي... النسوة يحملن الخبز والمتيسر من الطعام، والصبية ـ وأنا منهم ـ نوزع الماء ... أتذكر أن شابا وسيما ـ اتضح فيما بعد أنه الطبيب الجراح الشهير رافد أديب ـ طلب منا عدم تقديم الماء قبل أن يضع فيه قليلا من الملح أو الدواء.
لا أدري بالضبط... أعتقد أن المناضل المهندس عبد العال صاحب البقال ـ وهو من أهل السماوة ـ كان من بين السجناء الذين حملهم قطار الموت هذا ... في المحطة رأيت خالي رسول وجارنا المعلم مكي كريم الجضعان يمارسان دور الممرضين بإشراف الشاب الوسيم الطبيب رافد .. ( بعد سنوات عديدة شاءت المصادفة أن أراجع طبيبا جراحا تقع عيادته قريبا من ساحة الطيران فعقدت الدهشة لساني ... كان نفس ذلك الشاب الوسيم.. عالجني ورفض استلام أجور الفحص واكتفى بأن طلب مني نقل تحياته إلى أهالي السماوة).
ان نظام البعث الذي كان يقوده انقلابيو شباط عام 1963 أمثال عبدالغني الراوي وأحمد حسن البكر وعمار علوش ورشيد مصلح التكريتي وطاهر يحيى وسعدون شاكر ابتكر طريقة لإعدام نحو 500 شيوعي عراقي كانوا نزلاء معتقلاته في بغداد، وذلك بجعل قطار الشحن مقبرة جماعية لهم.. كان يريد أن يعدمهم خنقا في قطار الشحن المتجه من بغداد إلى السماوة كمحطة يتم بعدها نقل السجناء إلى سجن نقرة السلمان في صحراء السماوة... أصدرت الأوامر إلى سائق القطار بالسير بطيئا... كان الوقت صيفا، والعربات الحديدية مغلقة تخلو من النوافد وفتحات التهوية وقد تعمد القتلة رشّ الزفت داخلها... لكن سائق القطار كان مواطنا عراقيا أصيلا ووطنيا غيورا فقاد القطار بأقصى السرعة المتاحة ولم يقف بالقطار في مدن الرميثة والحمزة كما كان مطلوبا منه ...
أنا ابن الرابعة عشرة آنذاك وجدت نفسي أردد مع السجناء دون أن أعرف المقصود: " سنمضي سنمضي إلى ما نريد .. وطن حرّ وشعب سعيد " .
أظنني عرفت فيما بعد أن الأخ المناضل د . زهدي الداوودي كان من بين هؤلاء السجناء ... لست متأكدا تماما ، لكنني متأكد من أنه كان مناضلا كبيرا ، ورد اسمه في حديث بيني وبين الصديق المناضل الشاعر المرحوم زاهد محمد زهدي حين كنا نعمل معا في إذاعة صوت الشعب العراقي المعارضة لنظام الإبادة الجماعية المقبور.
أحيي أخي الأديب المناضل د . زهدي الداوودي
وأنا بدوري أحيي الشاعر المناضل يحيى السماوي وأقدمه شاهدا حيا إلى جانب شاعرنا المناضل الكبير ألفريد سمعان الذي عاش تجربة التواجد المرّة في جحيم قطار الموت. ورغم اننا عشنا سنة كاملة (1965) في سجن الحلة، فانه لم يتطرق إلى كونه من مسافري رحلة الموت، ربما تواضعا منه وهو في كل الأحوال كان قليل الكلام مع ما يخصه. لقد عرفت ذلك في نهاية تشرين الأول 2013 حين أهداني كتبه الثلاثة: القطار ونبوءة متأخرة والنواقيس لا تدق مع ساعة يدوية تحمل صورة الجواهري الخالد. إنني في الحقيقة ما زلت لا أعرف كيف أقدم له شكري، ليس بسبب هديته الغالية فحسب، بل لكونه ظهر كشاهد حي لحادثة مهمة أمام جزء مهم من تاريخنا النضالي الذي يكاد يتلاشى تحت غبار النسيان.
وبهذه المناسبة أسمح لنفسي أن أقتطف مقاطع من مقدمته لقصيدة القطار التي يعاتب نفسه بألم لسكوته وإخفائه غير المتعمد لحقيقة تاريخية يجب أن تطلع عليها الأجيال المقبلة: ها هو ألفريد سمعان يقول:
قمة نالت مني... توقفت على سطوحها سنوات طوال، حاولت أن أتسلق وأحاور ممراتها الوعرة... دون جدوى تمزقت خطاي على صخورها الداكنة... كلمات عاشت معي تعاتبني... تصرخ بي... أكتبني... كنت أقف مذهولا أمام رغباتي... ورغباتها... أطفأت نشوة التحدي كادت تشعرني بالخذلان.
انها أنشودة حزن وصرخة احتجاج وأصداء عذابات... بين سطورها ترتعش آهات الموت ويتعالى هدير التحدي...
لقد أستبد نداؤها بمشاعري... أرغمني على الصمت طيلة خمسين عاما... تغيرت فيها أمور وسالت دماء وتساقطت ضحايا وتبدلت وجوه وأفكار وأرتفع في فضاءات الأيام الحرجة صوت الجبناء وتخاذلت أمنيات وظل ناقوس النضال يصارع... ويهدر...
هذه القصيدة
تكاد تكتم أنفاس تاريخ مضمخ بالتضحيات والقرابين وتسدل الستار على فاجعة رهيبة...
هذه القصيدة
كان لابد لها أن تتنفس... وتنتشر وتشق ضباب الموت وتتخطى كل الحواجز...
أكثر من خمسمائة ضابط من أشرف وأشد اعتزازا بالوطن من الذين قدموا التضحيات... حشروا من قبل سلطات الإرهاب البعثي عام 1963 في عربات النقل من الحديد...
وأما أنا فكنت خلال فترة حركة قطار الموت في صفوف الأنصار في كردستان.
الكتيب بعنوان "القطار" مهداة إلى البطل حسن سريع .
القصيدة تقع في 16 صفحة بعشرة مقاطع، تناولها بالعرض والتحليل كل من: الشاعر إبرهيم الخياط بموضوع تحت عنوان: "ليس شاعر القطار فحسب، بل راكبه".
ريسان العسكري: قصيدة القطار ذاكرة المناضل... ذاكرة الشاعر.
زهير الجبوري: المشهدية الشعرية في قصيدة القطار.
علوان السلمان: قطار الموت واللحظة المرعبة.
إن كتاب "القطار" صغير في حجمه، ولكنه كبير في محتواه ولابد من قراءته.