ادب وفن

المسرح العراقي مجسدا في رائد كبير / عبد العزيز لازم

انطلقت " تقاسيم مسرحية " الصادرة عن دائرة الثقافة والاعلام في الشارقة- دولة الإمارات عام 2009 على قاعدة : " إن مسرحنا كان ضمير شعبنا ، بالقدر الذي نستطيع أن نستلهم .. وبالقدر الذي نستطيع ان نقدم ص17." يذكر المؤلف في "التقسيم 67" اي في ختام الكتاب ، انه لم يكن يريد كتابة مذكراته عن المسرح ، وقد جاءت تلك المذكرات متفرقة ومتباعدة قبل ان تجمع في كتاب جرى التباحث مع الاصدقاء حول اختيار عنوانه ، فكان ان اقترح الناقد المسرحي (عبد الخالق كيطان) عنوان " تقاسيم " ثم تحول العنوان الى "تقاسيم مسرحية ".
إن يوسف العاني إذ يقدم تقاسيمه المسرحية فانه كمن يقدم تقاسيم العراق أثناء فترات الخلق الابداعي المسرحي في هبوطها وصعودها . اي ان التاريخ الحافظ لروح الفن المسرحي مرتبطا بالايمان بقضايا الشعب يهيمن على الوقائع الصارمة التي تسجل حقائق الوطن . فيكون الملح الذي يمنح المذكرات طعمها الخاص هو الفنان حين يصير سياسيا مناضلا تستقر صورته في ضمير الشعب . وبذا تقدم التقسيمات سردا نوعيا بارعا يمتد بين الخلق المسرحي وابداع فن المذكرات مصطبغة بروح الشعب . لم تنس التقاسيم شغل الإمتداد نحو البلاد العربية ، أي نقل تجارب المسرح العراقي الى تلك البلدان. فهناك عشرة اجزاء او تقاسيم من مجموع 67 مخصصة لتجربة يوسف العاني وفرقته الاثيرة في بلاد المشرق والمغرب العربيين سجّل فيها الفنانون العراقيون بقيادة يوسف العاني مآثر الابداع المسرحي العراقي " بغداد الازل بين الجد والهزل " التي قدمت في الجزائر عام 1975 "ص119" إضافة الى نشاطات يوسف العاني نفسه في كل من لبنان ومصر وتونس والمغرب وقدرته الكبيرة في تأسيس موطىء قدم لتقاليد المسرح العراقي في تلك البلدان . المحطات التي يعرضها الكتاب تركز على جهود المؤلف ورفاقه في نشر أضواء كاشفة جديدة على ثلاث مصادر معرفية هي : الموروث الشعبي والتاريخ العراقي ، و المنجز العالمي في مجال المسرح . ففي مجال الموروث الشعبي تبرز مسرحية "المفتاح " (تقسيم12 المفتاح-أ-) قدمت عام 1968، والخرابة (تقسيم 12المفتاح-ب-) قدمت 1970 ، ويقول المؤلف حول الخرابة في التقسيم 13 : " يمكن لمسرحنا أن يقدم على مسرح الخرابة- ذاتها العديد والكثير من حقائق هذا العالم ..اليوم وأمس ..وقبل آلاف السنين.. كل ذلك بتوليف مقبول بين اليوم وأمس .. وبما يمكن أن يكون غداً." وكأن يوسف يتنبأ بتحول البلاد الى "خرابة" تنشر ثيمات متجددة يمكن ويُتطلّب تناولها في ألاعمال المسرحية . كما تبرز "النخلة والجيران " باعتيارها عملا مسرحيا باهرا أسماه المؤلف بالذروة ، احتل موقع الريادة خاصة وانها مستمدة من رواية بذات العنوان من تأليف واحد من الروائيين العراقيين الكبار الذي احدث منعطفا جبارا في مسيرة العمل الروائي العراقي هو "غائب طعمة فرمان" كما ان المخرج الذي حول الرواية الى مسرحية و أخرجها كان "قاسم محمد" العائد توا من دراسته في الاتحاد السوفيتي "محملا بالمعرفة والحماس والوعي المؤثر " والذي كان " يحمل روح شعبه ويضع الانسان العراقي في قلبه وجوهر فكره ..". يقدم الكتاب بعد ذلك استعراضا لظروف أعمال مسرحية عديدة أخرى كان يوسف العاني فيها مؤلفا أو مخرجا أو ممثلا متحدثا بشفافية عالية عن رفاقه الفنانين من مجايليه ومن الشباب . فهناك حضور قوي للرواد حقي الشبلي وابراهيم جلال وعبد اللة العزاوي ومحسن العزاوي وسامي عبد الحميد وفاضل خليل إضافة الى قاسم محمد وسلمى العلاق والفنانات الرائدات والشابات اللواتي اقمن حضورهن في فترات الانتعاش المسرحي عبر فرقة "المسرح الفني الحديث " في فترات زمنية مختلفة . المصدر المعرفي الاخر الذي تلقى اضواء المسرح العراقي الكاشفة هو التاريخ العراقي من خلال مسرحية " شخوص من مجالس التراث " و" كان يا ما كان " التي ابدعها الراحل قاسم محمد وساهم فيها المؤلف "التقسيم 32 " اضافة الى " ليلة بغدادية مع الملا عبود الكرخي ".
أما المصدر المعرفي الثالث الذي خاض فيه المسرح العراقي فهو المنجز المسرحي العالمي وكان ليوسف العاني دوره الرائد في التعريف بمسرح بريخت وقد اعتبر ذلك تصعيدا ابداعيا للانفتاح على المسرح العالمي . يقول يوسف العاني عن بريخت:" فهذا المسرحي يمكن ان تعدد مواصفات طريقته وليس اسلوبه .. بعدة مواصفات كالتغريب مثلا .. وكسر الإيهام ورفض التقليدية في كل عناصر المسرح..!"(التقسيم 18)
وتواصلا مع هذا النهج اتجه المسرح العراقي يتصدره يوسف العاني نحو تعريب او تعريق العديد من الاعمال المسرحية العالمية ، علما ان هذا المسرح كان قد مارس ذلك الانفتاح الثقافي قبل التعرف على مدرسة بريخت .
في تقسيم "بين الحدث والحديث -40-" ، يزداد يوسف العاني تألقا برواية حادثة تعبر عن اخلاق الفنان المسرحي العراقي السامية حين رفض تكريم ادارة مهرجان قرطاج العالمي له مفضلا ان يمنح التكريم لاستاذه " حقي الشبلي " حيث قبلت ادارة المهرجان ذلك ثم عادت لتكريمة بعبارات أشد حرارة تثمينا لذلك الموقف الراقي.