ادب وفن

بغداد في «معطف الصمت» / د. جواد مطر الموسوي

تم الاتصال بيني وبينه وأخبرني عن مجموعته الشعرية الأولى ووعدني بأن تصل لي بعد أيام قلائل، أنهُ الشاعر محمود جاسم النجار، عرفتهُ ناثراً جيداً يجيد فن الرواية والقصة، خصوصاً بعدما قرأت له روايته الأولى وكانت بمستوى مدهش وجميل يرقى إلى الاحتراف، شكرتهُ على إهدائهِ، وتمنيتُ أن أجد فيها ما يشفي غليلي ويداوي جراحات الغربة، في البدء كنت متردداً بعض الشئ في قراءتها لأسباب كثيرة منها: أن مطالعتي للأدب الحديث لا يدخل ضمن اختصاصي بل هي هواية ورغبة قديمة أيام جريدة "المزمار" وصحافة الأولاد، لذلك فانا ليس بمتابع بل لي قراءات انتقائية وحسب الرغبة والفراغ، ثم إنها المجموعة الاولى وفي العادة يُعذر على كتاب التجربة الاولى في عدم شد القارئ اليهم، واحتمال وقوعهم في أخطاء كثيرة واردة جدا وفي البناء الفني نتيجة قلة الخبرة..
بقي "معطف الصَمت" على مكتبي أنظر لهُ وربما ينظر لي متردداً مرة وراغباً مرة أخرى.. لم يكن في ذهني أن أكتب انطباعات عنها، كما حدث سابقاً فهزني الشاعر حميد حسن جعفر والشاعر نوفل أبو رغيف في إنطباعاتي عنه بعنوان "ضيوف في ذاكرة الجفاف"، وهما شاعران لهم أكثر من مجموعة ولهم خبرة في هذا المجال.
ولكن منذ الصفحات الاولى مسكت قلمي بدون أن أعي ذلك بكتابة بعض الملاحظات الصَغيرة التي تهزني، ربما لا تكفي لكتابة "انطباعات"...
لقد خرج النجار محمود جاسم من معطف صمته ليقدم بناءً فنياً رائعاً ومحكماً، ويعلن عن فروسيته في تطويع الكلمة بصورة أخرى فبعد أن كان في "لَظى الذاكِرة" روائياً مقتدراً يجيد الصنعة الادبية وتوظيف الواقع بشكل سليم في قالب قصص جميلة قريب من السرد التاريخي ، وهذه ميزه وليس عيب، لكن بقالب روائي أشار فيه الى محطات مهمة في المجتمع، وأشر عن ولادة روائي عراقي مقتدر نحن بحاجه ماسه له.
النجار أعلن اليوم عن صمتهِ الشعري ب "معطفُ الصَّمت" وهو أول دواوينهُ، بمقدرة تفصح عن خبرة سابقة غير منظورةِ على الاقل بالنسبة لي، تألق فيه فنيا وفكرياً وبنائياً بعاطفة جياشه مندفعة باقتدار وثبات في محاولة لكسر التقليد بفؤادِ نابض بالصدقِ أتعبه الدهر، لكنهُ بقى ناهض يقاوم الزمن بشفافيتهِ ورقتهِ وعذوبتهِ، بعزف يرتقي الى المرشال في بعض الاحيان لكن بروح رومانسية عالية في محاولة لرسم الواقع كما هو دون تزويق إلا للضرورات الشعرية، إنه واقعي بمعنى الكلمة لا يريد أن يبوح أكثر مما وجد فيه .
أباح النجار من معطفهِ ثلاثة وأربعين بوحة قلبية، ضمت القصيدة الشعرية والنثرية بين القصيرة كلقطةِ فوتوغرافية إلتقطت لا يمكن أن تلتقط ذاتها مرة ثانية ، والطويلة نسبياً ولما لا وهو روائي وقاص يهتم بالحبكة والسردالقصصي والنفس الطويل.
إن الشاعر النجار يريد من الشعر أن يكون جهداً إنسانياً ضرورياً حتى ولو أتعب قلبهُ، فهو رسالة بناء وتلاقي وتعبير عن واقع ليضيء الى حياة سعيدة ، لكن آهات وأحزان الوطن والغربة كانت ملازمة لهُ في كل كلمة والحنين للحبيبة للأهل والاعزاء:
اشتقنا إليكم يا أهلي ويا وَطني..
إلى كلِّ حبة رَملٍ ..
إلى دفء بيتي ونوحُ الحَمام
لكن النجار إستعجل كثيراً ليبوح أول أسراره من معطف صمته منذ قصائد الديوان الأولى "الحروف الخمسة"، إنه يكتب الشعر لقلب حبيبته فقط التي هام بها بعيداً عن مدارات خيبته وسحر الحروف السَمراء بأشكالها وبألوانها وتوجهاتها وليسرق صور الفنارات البعيدة ليبحث عن الهمسات بمرافئ عينيها.. أي حبيبته التي توصف هكذا ثم يقول عنها إنها التاريخ هي:"بغداد مرتع الأنبياء والحروف الخمس" يناديها: متى تضحك لنا الدنيا أم عساها ضحكت علينا؟ إنها مرتع طفولة النجار إذ ولد فيها سنة 1964 ترافقه أينما حل وإرتحل في البر والبحر منذ أن غادرها مجبراً وهو في الثلاثين من عمره سنة 1994 هائماً في مدن العالم "عمان، اوكرانيا , لاهاي.. والقائمة طويلة"، يحمل في قلبهِ حبها قابضاً بقوة عليه خوفاً أن تبتعد عنهُ أو تتركهُ وحيداً حتى ولو للحظة.. فهو في إشتياق دائم لدعاء أمهِ لشوارع بغداد و"لروجات" دجلة، للفيافي للأشجار ولطيبة الاهل ولمفردات الحب والمحبة حين تتناثر وتسمون، وهنا تعمد الشاعر استخدام بعض العبارات والألفاظ المحلية البغدادية ليشفي غليله وحبه لها "اغاتي، تأمرني، عوافي" إنها شمس بغداد التي أحرقته وأحرقها لخبزة التنور المنشورة بنبض طين سومر وعذبَ الفرات .. إن النجار هام حتى النخاع في حب بغداد ، دائم الانتظار بشوق وشوق بأنتظار، ذاكرته المثقوبه تحفرها الحروب العاهرة وروحه الثكلى كنهر دجله معفر بالدم والحبر والتاريخ وصرخات النداء.
ويبقى الشاعر وهو في هولندا متيقناً إن قطارهُ سيصل حتماً وتسير القافلة وتمضي بقرار ويتساءل سيصل القطار ..! بغداد لقد أتعب حبك قلبي !!! وبقيت كما أنت إمرأة بجلد نمره، كم أشتاق لرائحتك لطينك، وحين تستظل الروح بأفياء النخيل ترمي بأثقالها تحت قباب أبناء البتول: ( تسبح الروح طمأنه ، وتسبح هيمانةً في جنان السعد والنجوى أواه ياحلمي الخجول ).( )
هنا استخدم الشاعر المقامات العراقية، كما إنه يذكر الموسيقى والغناء والآلات الموسيقية في أكثر من مكان مما يدل على اهتمام آخر للشاعر هو رصد ومتابعة الفن الغنائي العراقي، ولاسيما القديم منه ولايستبعد على إنه على معرفة بالانغام والمقامات البغدادية والعراقية.. وهذا واضح من خلال انسياب الكلمات في قصائده وتركيزه على النغمة والضرب الموسيقى .
وفي عينيها ( بغداد ) يلمح الشاعر نهري دجلة والفرات كنورسين يتيهان بارضي العطشى ، وسمارها يذكره بالدفء والطيبة وأهله وأحبائه .. وشمس العراق وقلبه الملهوف لاحتضان بغداد وليلها الطويل فيناجيها :
... تعالي
تعالي حُلماً عسانا نلحق الركب
ونحظي بابتسامةٍ تشفى الغليل
تعالي ..
وتبقى "جنة عدن" بغداد وخضر ياسها تستثمر آخر دقات قلب الشاعر المتعب ليست للعبادة بل للتي أعطت الرمض لدقات قلبه الأخيرة .. ليودع قلبه بين جنة بغداد وينهي مشوار سهده. ويستمر بهيامه أولا بالحبيبة بغداد العراق وبرومانسية عالية قل نظيرها ، تكاد تصل حد الجنون بحبه لها .. بل يصل في النهاية ان لا امرأة له بعد بغداد إنها هي حبهُ الاول و(قبلته الاولى) وصداها وقداستها وحلمها ومذاقها، فهو كالطير يغرد:
ان قلبي يكتب نزفاً
يرسم حُباً وتضاريس حياة
الغربة مرافقة لكل قصائد الديوان وتكاد لا تخلو قصيدة من حب الوطن والأهل وغربة القلوب، وأكاد أجزمُ ان كل الكلمات مفعمة بحب العراق والعشق السومري حتى ولو لم يبحْ الشاعر بذلك مضحياً وكاتماً ومتحملاً دائما لذلك تعب قلبه.. لكن ترتيلهُ وعزفهُ على قيثارةِ عشتار تستمر بأجملِ ما كتب من شعر "لمن اوقدت في القلبِ جمره" وصيرت الروح جمرةٍ وبركانٍ، ويبقى الشاعر يحتفظ بساعة حبه، فلم ينمْ الليل. ولم يهدأ كطفل تاه في وادٍ يعبثُ بشَعر حبيبته بكل جغرافيتها قبل النوم وبعد النوم، كتب لها ملايين الكلمات حتى جف من صميم قلمهِ الحبر، وبقى ينتظر الأيام بشرى الصبر، وتفتح له شبابيك العشق أزاهير عشق وأناشيدُ غرام وغده مليء بالقوافي وربيعهُ وكأسهُ مطروح يتيم على الطاولة ينادي الوطن والاهل والحبيب.. يحن الى سمار أيامهِ وعشرة تلك السنين..
يرتقي الشاعر محمود النجار في قصيدة "أمي" أعلى سلالم المشاعر وقمتها، بالحب الذي ذاقت به الافاق والدنيا والنبع الصافي ومعنى الحياة وحياة فيها معنى "هذه الصور الشعرية تتكرر عند الشاعر في أكثر من قصيدة" ومن أمهِ تعلم كيف يذوب الدمع إسفلت السنين ويشتاق لها كاشتياق بغداد:
كم أَشتاقك حُلماً
كما اشتقتُ بغداد دهراً عاتياً
أمي يارفيقة غربتي
ونبع حياتي
ويستمر انينه حتى يخاطبها في قصيدة "يا بلسم الروح"
متى تهلين
وتنيرين دربي التي ظللت بها
زيديني امل ...
ومع ذلك لا ينسى الشاعر بغداد ودفئها، حتى يصف دفء أمه كحضن بغداد حين يلقى أمه وتلقاه.. فيشتاق لأهلهِ ومرتع ذكرياتهِ.. وبعد أن تعب قلب الشعر ببغداد وأمهِ والعراق وأبوهِ ودجله والفرات والأهل والأحبة والذكريات وبيت طفولتهِ والسياب ، أدخل المستشفى لأجراء عملية خطرة "فوق الكبرى" وعندما يفتح عينيه باتجاه نافذة المستشفى في هولندا يرى طيف العراق بعد غياب ورقاد وألم وأوجاع وأكوام الشقاء فيشتاق لأهلهِ وأصحابهِ ومساءات دجله وللعصاري ولغبشة تنور أمه.. ورأى بغداد والبصرة بمدنها (العشار والسيبة وابا الخصيب والفراهيدي والسَيّاب والسليمانية بدبكاتها وضحكات نيروزها .. وعلى الرغم من المعاناة الكثيرة والمتنوعة التي تعرض لها الشاعر ومنها الجسدية يبقى العراق خالداً داخلهُ ودمٌاً في عروقهِ يراق ويذوب بكحلِ عينيهِ نشوةً وبهاءً وحلماً للتراقِ، وألماً على صراخِ نهر الفرات وعودة أهات الحسين في كربلاء ووأد البنات وغياب الأمان.. ويستمر شاعرنا المبدع بصلاتهِ وقدسيتهِ للعراق الواحد من السليمانية إلى البصرة.