ادب وفن

الغزل في الأدب الشعبي / لفتة عبد النبي الخزرجي

الحلقة (1)
لم يترك ألأدب الشعبي بابا من أبواب الحياة ألاجتماعية وألإنسانية إلا وسلكها، تعبيرا عن قدرته وتفاعله مع معاناة ألإنسان في مسيرته الطافحة والمترعة بسيل لا حدود له من المنغصات والأتراح والمسرات والأفراح... وليس غريبا أن يكون ألأدب الشعبي، و بألوانه الكثيرة والمتعددة.. من ألبوذية والعتابة والزهيري والدا رمي وغيرها... قد أولى اهتماما بهذا الجانب وكرس الشعراء اغلب نتاجا تهم الأدبية لخدمة ألإنسان في محبته وكرهه، في غضبه ورضاه، في سلمه وحربه وفي نضاله وكفاحه ضد الظلم والقهروالتسلط والتفاوت الطبقي.

وقد كان الغزل في ألأدب الشعبي تواصلا مع ما أنتجه الشعراء في القريض في هذا المفصل من مفاصل الحياة ألإنسانية.. لذلك نرى الشعراء وهم يفصحون عن الغزل الجميل في ذكر الولف والخليل... وينتزعون المفردات من الموروث ليصوغوا من خلالها شعرا يظل خالدا تردده المنتديات والدواوين والمجالس ويجدون فيه تعبيرا عن هواجسهم وأفكارهم وهمومهم.ولذلك يقول الشاعر تعبيرا عن تعلقه بقيم الجمال:
إجعوده فوگ متنه الترف شرهه
عرابيد وسرت يچفيك شـرهه
يگلي ليش عينك علي شـرهه؟
تريد تشـمت العـدوان بيه؟
ولا يألوا الشعراء جهدا في إبراز مواهبهم في إختيار الجناسات المعبأة بالإحساس العالي والمعبرة عن قيم الجمال واصالة الطبيعة التي تفرز هذا اللون من ألأدب بإعتباره حالة إنسانية مترعة بالحب... وموشومة بعطر الحياة وألأمنيات والقلوب المتيمة بعشق الجمال والحياة والطبيعة وما تضمه في حناياها من قيم وزينة وحب.
إچفوفك بيض يحلالي شـذرهن
إجروحي خزنن گلي شذرهن؟
لون أبوس وجنـاتك شذرهن؟
مضره ما علـيك ونفع لـيه
ويمكن أن يكون الشاعر حسين ألعبادي من أبرز شعراء الغزل، وخاصة في ألبوذية... لأنه أول من كتب ألبوذية وتفرد في هذا اللون من ألأدب الشعبي... وليس غريبا على هذا الشاعر أن يقدم هذا العطاء الغزير في صناعة الشعر لأنه من مدينة.. فطمت على الشعر وتقول الشعر على الفطرة... كما أن ابو معيشي هو ألآخر لا يقل غزارة في إنتاجه... وهما من مدينة واحدة..إنها سوق الشيوخ... مدينة الشعراء والمهاويل...ومدينة ألإبداع والعطاء والكلمة الصادقة النابعة من قلوب مفعمة بالبساطة... ويسري العشق في عروقها كما الماء العذب في نهيراتها وجداولها وبساتينها....
حچت والدر تناثر من شفتهه
سهيت وتاه عگلي من شفتهه
( لاهي الحور لاهي النور )
( لا هي الطير فوگ وكور )
( لا هي النازلة من الحور )
ولا هي إللبسوهه منشفتهه
بلوة وغضب من رب البرية
هذا ما قاله "حسين العبادي" أما ابو معيشي فإنه يتغزل بمفردات غاية في الشفافية والبساطة.. ويعطينا صورة عن الجمال والحلي ودورها في إبراز صورة المرأة الريفية التي كانت وما زالت تعشق الزينة والحلي وتتباهى بها لتظهر جمالها وزينتها:
من أحـيوله إنهبل عگلي بها دان
وصحتله إبصوت ريضلي بها دان
مدافـع زرگت إعـيونه بها دان
صواعـق بالسمه ونـزلن عليه
ولا نبالغ إذا قلنا أن الشعراء الشعبيين قد صوروا عشقهم وهيامهم بأشكال وصور جميلة جدا، حتى أن الجناسات التي إعتمدوها كانت مفاتيح لأقفال يصعب فهمها، وقد تدرك البعض من القراء حالة لبس او إبهام...
إباب الـدار ذاك اليـوم شفتك
وگلبي إعليك يا محبوب شفتك
سقيم آنه ودواي إبطرف شفتك
شفى وأشفى من الدختور إليه
وقد تأتي الجناسات مرة وهي محملة برائحة المضايف والبيوت الطينية او يكون لها عبق البردي والقصب وشباك الصيد التي تعاشر ألأهوار، او أنها تناغي الطيور وهي في اعشاشها،كما نستمع للشاعر وهو يصف رنة الخلخال في حركة المرأة وكأنه ناقوس يترنم بأنغام تبعث البهجة والسرور مما دفع الشط والضفاف لتقديم التحية كما يخبرنا الشاعر أن ماء الشط هو ألآخر قد لحقه ألإعجاب وأصابته الدهشة،فطفح مبهورا وسال ماؤه سيحا:
إهنا يبني تلـگاهن حيلهن
شبه ناقـوس يترنم حيلهن
الشريعة إتبسمت والشط حيلهن
طفى وزاد وطفح وإنچلت ميه
ويتواصل هذا السيل من الجناسات الرائعة والمفردات التي تجسد ألإبداع والتألق... لترسم لنا صورة تعوم في بحر من الجمال وألإناقة والهيام:
على صحن الخدود الدمع چايات
غزير وبيه إميال البحر چايات
لولا النمنمة والـناس چايات
إتحذر من تفافـيج الثـنيه
المحذورلا يفارق الحبيب... ومع كونه يشكو من الناس ومن ألإشتياق.. والحيرة التي تعصف به وخوفه من المحذور... لكنه لا يتردد في القول:
إسنونك بيض شبه الوفر بيهن
دوالـيبك إبگلبي وفر بيهن
لون جنحان عندي وفر بيهن
وأجـيك إبساعتي العنت عليه
ويمكن ان نعتبر الوصف في الشعر من العلامات البارزة في هذا اللون من الأدب الشعبي، وحيث ان الشعراء يمتلكون إحساسا مرهفا وروحا ممتلئة وطافحة بالحب.. فإنهم يهيمون بعشقهم ويبالغون في مشاعرهم وتنساب دموعهم وتتشظى حكاياتهم...
وحگ سورة نبي يونس وياسين
لمحت جعده لمع وأبسم وياسين
وشفت بگشة ورد احمر وياسين
وشفت الـياس طافح للثريه
إن التحليق في فضاءات الوصف والخيال إنما يأخذ ابعاده من تراث الشعر العربي القديم ومن تلك ألإضمامات والومضات الرائعة التي كانت تزين القوافي وتمنحها ألقا وتوهجا وديمومة:
إهدومي من چثير الدمع يبلين
على كشح النحيل الحمل يبلين
وحگك لو إعظام إعضاي يبلين
إبثرى لحدي ويعن ذچرك عليه
ولست أدري اسباب هذا الكره وهذه ألإنعطافة الخطيرة في تبدل نظرة الشاعر وتحول مشاعره من حب وهيام وغرام الى ما يشبه القطيعة والحقد غير المبرر:
عجب خلخال ساگك ما يرنش
چبح ودموع عينك ما يرنش
يرن منك مصايب ما يرنش
أكرهك لو حياة إتصير ليه
إن هذا التحول المفاجئ...لا شك له ما يبرره كما أظن... لآنه يعود ثانية ليعترف بأن ما قاله ليس إلا حالة إنفعال مؤقتة وسحابة صيف عابرة سرعان ما تمر وهكذا عاد الشاعر ليؤكد ذلك:
خـزن جرح گلبي وأكتمنه
عـبيط ولا صحالي وأكتمنه
أنـه إشمخفي هواكم وأكتمنه
يبيحه الدمع من غصبن عليه
وهذا الوصف الدقيق...والتغزل الشفيف الدافئ.. والإمعان في إظهار المفاتن في جسد الحبيب.. وتلك المفاتن تتركز في ابتسامة جميلة تفرز منظومة مسطورة تضاهي العقيق ألأحمر تأخذ بتلابيب الشاعروتغوص في وجدانه وتستوعب كل إحساسه ومشاعره:
إشتبغي بمبسمك يدعي منظم
سطر ليلو إبعقيق أحمر منظم
رشف إشفاك يبريني منـظم
يريع إحشاي من حـر المنيه
يقولون أن الحب اعمى... إلا أن هذا الشاعر يبدو أنه قد بات يناقش ألأمور بطريقة واعية حتى أنه ادرك رداءة سلوك حبيبه.. ونعتقد أنه يتحدث على لسان ألأنثى التي ازرى بها الحب بسبب التلون والذات المريضة:
نويت امحيك من بالي وهملاك
دليلي بعد ما رف لك وهملاك
چنت سابج أنوحن لك وهملاك
تركـتك من شـفت ذاتك رديه

الحلقة (2)

ولا يقل تأثير الغزل لدى الشعراء الشعبيين في أذهان الناس عما يقوله شعراء القريض... وما ترتبه جناسات الشعر في ألأبوذية لا يقل اهمية عن فعل القوافي.. ولهذا سار الشعراء الشعبيون ونسجوا على منوال القريض في كثير من محاولاتهم التي كانت رائعة وفيها جانب كبير من ألإبداع والتألق..وهي مجاراة فيها الكثير من الفن والذوق وتلمس الجناسات التي تحاكي الغزل بمفردات من المخزون الشعبي المعبأ بما هو جميل ورائع:
إن القلوب إذا تنافر ودها مثل الزجاجة صدعها لا يجبر
وعلى هذا القياس يقول الشاعر وهو يترسم خطى القريض ليباريه في سباقه لإقتناص المفردة التي تعود بالشاعر الى نفس الطريق الذي سلكه زميله في القريض ولكن بلغة ومفردات شعبية:
ذلـولي ما يجد السير ظل عاي
إنتـحوا عني ومد البصر ظلعاي
مثل كسر الزجاج إ نكسر ظلعاي
أبـد ما يـرهم التجـبيير بيه
وشاعر آخر يخطو بهدوء حذر وهو يتغنى بهذا البيت من الشعر... ليجاري ما ورد فيه بجناسات تبدو أكثر قدرة على التعبير وأشد إلتصاقا بالمفردات الشفافة ذات النفس والحس المرهف:
عريت من الشباب وكان غضا كما يعرى من الورق القضيب
فيا ليت الشباب يعـود يوما فأخبره بما فـعل المشيب
حيث يقول:
وحـگ من في كتاب الله يومن
شبت وسيوف دهري علي يومن
ياليت الشباب يـعود يومن
وأخبره على المشيب شعمل بيه
ولان الشاعر الشعبي موشوم بعطر الهوى... ومتيم بعشق الطبيعة والحياة... ومهووس بالمفردات المعبئة بالوجد والغرام والتعلق بالجمال، فإنه لا يتوانى عن ألإتيان بما يجعله ندا لشاعر القريض:
ولهذا فهو.. وعندما يقرأ ما ورد في هذا البيت... يجاريه بجناسات غاية في الروعة والسلاسة والابداع:
ونحن لا نماري إذا قلنا أن الشاعر الشعبي... وهو يأتزر لغة البسطاء من الناس ويتناول مفردات يفوح منها عبق الطين ورائحة القصب...ورنة الخلخال... وهو من مفردات الزينة "خشل " تلبسه المرأة في اسفل الساق:
هله بگبال ابو سمحة من الـداي
حيوله عذبت حالي من الـداي
صحتله إبصوت ريضلي من الداي
حياتي من ألزم إجـعودك بديه
وهذا الوصف الجميل وهذه المفردات التي يقتنصها الشاعر ليصوغها شعرا... لاشك تجعلنا امام إيقونات من ألإبداع:
ترف رعبيب عمره إ ثنعش شفتاه
شـبه ياقـوت يلعشاگ شفتاه
أبشركم سمعت الشـرع شـفتاه
ما حـرم لـزم نـهدين إلـيه
وفي مساجلة رائعة بين إثنين من كبار شعراء ألأبوذية...نقرأ هذه المفردات التي تتنفس جناسات تفيض روعة وتقدم لنا صورة حية عن هذا اللون من الادب الشعبي، حيث يحاول الشاعر جدوع المياحي ان يختبر قدرة الشاعر سلمان ألأنباري على التفاعل مع الغزل:
عليه زيـارتك ياترف سنه
يشبه لـيلو المـنظوم سنه
شحن مركب غرامه إبحر سنه
تشظه آه مـن فرگـاك ليه
ولأن الشعراء من معدن خاص ومميز ويمتلكون الحس المرهف والقلب المتيم والنفس الولهى، فقد كان جواب الشاعر والخطيب الشيخ سلمان ألأنباري، لا يقل إبداعا او موهبة عنه:
الغيرك ما سنا جـدمي ولك سن
فرض واجب علي وصلك ولك سن
من العناب إلك شـفه ولك سن
بـرد يخسه الـبرد ماهو جديه
أما الشاعر عبود غفلة، فإنه لم يغفل أبدا عن ذكر المحبوب، ولم يتأخر عن ألإفصاح بما يجيش به صدره:
إلك مرعى دليلي ونته رامه
إهو رامك يناهي ونـته رامه
هيه يلله نتگابل ونـته رامه
بحجر والفشختين تصير بيه
وفي ألإطار نفسه يتحرك الشاعر إدعيچ الكرمي...ولكن بمفردات لا تعوزها الحبكة والسبك... فيمنح حبيبه هذه الملامح والصفات الجميلة:
سمه صدر الحلو ونهده شمسها
مهجتي بقبس وجـناته شمسها
ثمر غصنه إنضجت لكن شمسها
ونـبل لحظاته تـنذر بالمنيه
هذا السيل من الجناسات التي لا يوقفها حاجز او سد تظل تطارد همسات الشاعر وهو يغرف من معين المفردات ليصوغ لنا إكليلا من الشعر الموشوم بالحب والعطاء الباذخ:
الحزن والهم ضعف حيلي ورچه
وعلى الساحل وگف ميلي ورچه
زمـاني الـما اله مـروه ورچه
رماني وصرت مشرف عل المنيه