ادب وفن

الفنان التشكيلي صباح وزّي: جبلت من الصعاب في موانئ الغربة / كمــال يلـدو

 

كان مشهد تدمير وسرقة محتويات المتحف العراقي يوم 9 نيسان 2003 كافيا لأن يفجـّر بركان غضب لم يهدأ أواره لليوم. كيف وقد خرب العابثون اجمل ما نملكه من تراث وتأريخ، وكادوا يحطمون أحلى ساحة طالما ترددت عليها في طفولتي وصباي، فمنحتني الكثير لتنمية وعيّ الفني والثقافي .. كنت أقضي أياما طوال أتأمل تلك الكنوز الرائعة، واحاول ان استوعب الدقة المتناهية في العقل واليد التي صنعتها، كانت صدمة وفاجعة كبرى منيت بها لكنها ايقظت عندي مرحلة وأنارت لي دربا، ومع حزني الكبير، أشعر بأن لا حدود لإحلامي وكما قال الشاعر والفيلسوف الهندي/البنغالي طاغـور:" الغيوم تتعاقب على ايام حياتي، ليس لأنها تحمل المطر وتنذر بالعواصف، بل لكي تضفي الوانا جميلة على سـمائي ساعة الشروق".
هكذا بدأ حديثي مع الفنان العراقي صباح وزّي الذي يسكن في مدينة فلنت بولاية مشيكان الأمريكية والتي وصلها منذ العام 1979.
- ماذا عن البدايات؟
ولدت في مدينة القوش ذات الأرث الوطني والنضالي الكبير في العام 1954، وكما هو معروف فأن مدينتنا كانت تعتمد على الزراعة بشكل كبير. وكان افق التطور للعوائل محدود بحكم هذا الواقع، فقررت عائلتي الأنتقال للعاصمة بغداد وأنا لم ابلغ الثمان سنوات، وسكنت في اكثر المناطق شعبية. لقد ابهرتني بغداد مع مرور السنين بكل ماتحويه من بناء وحضارة وبشر وعلاقات، تطور تعلقي بها كلما كبرت وكلما أزداد الوعي عندي، لكن حبي للقوش بقى بلا مساومة طوال الزمن. منذ طفولتي عملت (صانع) في محل للنجارة، وفي هذا المشغل تفتقت اولى مواهبي بالرسم على قطع الخشب الزائدة، او بالنحت البدائي او بالتخريم على خشب (المعاكس) بالمنشار. كنت سعيدا جدا بما اقوم به، وكان (استاذي) يشجعني، ويندهش من ما أقوم به، وقد صادف ان كان لصاحب المشغل صديقا (فنانا) عندما شاهد ما اقوم به تمنى لي مستقبلا في عالم الرسم والنحت!
- ومتى أبتدأت رحلة الغربة؟
بعد ان انهيت الدراسة المتوسطة، كنت آمل ان التحق بمعهد الفنون الجميلة، الا ان الشروط (البعثية) التعجيزية قد حرمتني من هذه الفرصة، فتوجهت لأنهاء خدمتي الألزامية، وبعد انتهائها وتسريحي من الجيش عام 1976 فتحت ورشـة للنجارة في مدينة الدورة، لكن سوء الأوضاع السياسية والمحاربة حرمتني مرة اخرى من التقدم، عندها قررت مغادرة العراق وكانت وجهتي اليونان. اقمت في أثينا التي عشقتها وعشقت تراثها ومتاحفها وأطلالها التي كانت تسحرني وتعيدني مئات السنين الى عهود اثينا وشعبها العظيم. اضطرتني الحاجة المالية لركوب عالم المغامرات بالعمل في السفن التجارية التي كانت تمخر البحار وتزور الموانئ المتنوعة في امريكا اللاتينية وأوربا وأفريقيا وآسيا وعبر المحيطات. وبعد سنتين تعبت من البحر وعدت الى أثينا التي غادرتها الى الولايات المتحدة في العام 1979، وما زلت فيها!
- وماذا عن الرسم؟
لم يغب الرسم عنّي طوال فترات الترحال، الا انها كانت محاولات انعكس عدم الأستقرار عليها، الا ان التغيير الكبير حدث بعد ان استقر بي الحال في الولايات المتحدة، وحاولت رويدا رويدا ان انمي قابلياتي الفنية، وقد توفرت لي فرصة الألتحاق بأحد المعاهد في مدينتي ودرست العديد من الدروس التي لها علاقة بالرسم والفن وحتى النحت. وأستطيع اليوم ان اقول بأني امضيت آخر 30 سنة من عمري في العالم الذي كنت احلم به، عالم الفن بكل معانيه وتجلياته.
رسمت الكثير من البورتريهات، والمناظر الطبيعية، الا ان احب مدرسة لقلبي هي التجريدية والتكعيبية، اما عن التقنية الرقمية، فرغم ان العديد من زملائي الفنانين صاروا يزاوجون فن الرسم بالفن الرقمي، الا ان قناعتي تقول: لا يحل اي فن محل الرسم باليد والفرشاة والألوان ورائحتها الزكية!
- وما هي طرق تواصلك مع الجمهور ومع باقي الفنانين؟
منذ اوائل الثمانينات، وأوائل عهدي بالرسم النظامي بعد الأستقرار، وجدت طريقي الى تجمع "فناني مدينة فلنت" وشاركت معهم في معارض كثيرة ولغاية اليوم، وكم كنت سعيدا حينما اختارت رئاسة الجامعة التي كنت ادرس فيها احدى لوحاتي لتعلق في الجامعة لمدة سنة كاملة، وذات الشئ حصل مع الفرقة السمفونية بمدينة فلنت التي وضعت احدى منحوتاتي الخشبية والتي كانت عبارة عن قيثارة اور في مقدمة صالة الأستقبال بدار الفرقة. وكان لي شرف المشاركة في الكتاب الذي اصدرته نقابة عمال السيارات تخليدا لقادة الأنتفاضة العمالية في الثلاثينات عبر رسوم لقادتها وصدر الكتاب عام 1999 والذي كان بعنوان (الشهود والمحاربين)، اما نشاطي الأكبر فهو ضمن مجموعة "جمعية الفنانين التشكيلين الكلدان" التي تغص بالحيوية والنشاط وأقامة المعارض، وأمتلاك سمعة فنية تليق بالفنانين والفنانات المشتركين بها. ومن خلالها اتواصل مع الجمهور العراقي والأمريكي، لكني وجدت اكبر التشجيع (المعنوي والمالي بشراء نتاجاتي) من المهتمين الأمريكان اكثر مما يبديه ابناء جاليتنا العزيزة، وهذا ينطبق ايضا حتى على زيارة المعارض الفنية ومتابعتها.
- وما هو الجديد لديك اليوم؟
كما ذكرت في بداية حديثي عن مأساة سرقة آثارنا من المتحف العراقي، فقد ايقظت عندي (طوطما) كان في سبات عميق، قمت بعده بأعادة دراسة فنون ورسوم ومنحوتات بلاد الرافدين، بمراحلها المختلفة، السومرية والأكدية والبابلية والآشورية، ووجدتني اسير عشق جديد هو النحت، فعلى الرغم من ان اصابعي تعلمت وتمرست على الفرشاة، الا ان اناملي ما كان لها ان ترتاح لولا مداعبتها للطين و البورك والخشب والحديد والبرونز، هكذا وجدت نفسي ارد على الجهلة الذين عبثوا بتأريخ وتراث عمره آلاف السنين. اردت ان اقول لهم، بأننا نحن ابناء الرافدين الأصلاء، نستطيع اعادة انتاج تأريخ اجدادنا، ونشره في كل ارجاء الكون، وأن كنتم بجهلكم وأجرامكم تستطيعون تخريب بعض القرب والأواني الفخارية، الا انكم لا تتمكنون من الوصول الى اعماق مشاعرنا المتدفقة بالحب لهذا الوطن الغالي. نعم منذ سنين وأنا اعكف على عمل (ريبلكا) للكثير من التماثيل والرموز التي اشتهرت بها حضارتنا، ويسعدني كثيرا ان استمع الى كلمات الثناء والأعجاب التي يبديها العديد من زوار المعارض، ويسعدني اكثر ان اقول بأن اكثر الناس اقتناءَ لهذه المنحوتات هم من ابناء الشعب الأمريكي، وهذا فتح لي بابا جديدا في تعريفهم اكثر بهذه اللوحات ووضعهم في المشهد التأريخي ايضا. وكما يقول الفيلسوف اليوناني العظيم ارسطوطاليس: مهمة الفن والفنان ليست فيما يمكن ان يظهره او يرسـمه، بل فيما يمكن ان يصـّور عظمة مكنوناته.

وقبل أن أودع هذا الفنان العصامي، ذي الحس الوطني والقلب الحنون، الذي عرفه العراقيون في مقدمة من يضحي دفاعاً عن الثقافة وحرية الإبداع، والذي حّول بيته الى متحف عراقي كبير، تساءلت وإياه عن اليوم الذي ينعم فيه العراقيون بوطن حر، يعيش فيه ابناؤه بأمن وسلام، وترفرف عليه رايات المحبة والعدالة والمساواة، وتجمدت الأجابات على شفاهنا، ورغم هذا إفترقنا مفعمين بالأمل!