ادب وفن

في قصص فرج ياسين القصيرة جدا (1) / محمد يونس

الكتابة عن القصة القصيرة جدا هي احالية فيما اعتقد، ولا يمكن أن نتحدث عن قصص دون الإشارة إلى أسس هذا الجنس، لأن تجربة الكتابة فيه مؤكد هي دقيقة وفي غاية الإقناع، بتوافقها مع البناء التنظيري، وكانت تطبيقا موضوعيا له، وبنية القصة القصيرة جدا حساسة ودقيقة عمليا، فأنت لست ترى في وجودنا الحي المفارقة مبذولة ومكرورة في أكثر من حيز ، وحتى السعي إلى النتيجة الذي يسبقها، هو مرتبط بشخصية على الغالب هامشية، وهي صراحة داخل كيان النص، ليست إلا وجهاً غريباً وغير أليف، وطبيعي أنها ظاهرا أو خارجيا هي مألوفة ومن لحم ودم، لك? من الجهة الأخرى هي كاركتر يمكن أن تفاجأ به.وطبعا هذا احد وجوه الخلاف مع القصة القصيرة، وهو ما يعطي القصة القصيرة جدا ميزة ومتعة وانبهاراً أيضا، وطبعا الأداء صعب في هذا الجنس ويحتاج نفساً متواصلاً لا يتقطع حتى ما كان للتأمل، وهذه الميزة في البناء تحتاج مخيالاً عميقاً وارسطي السمة، وفرج خميس، مثال حيوي وبارع في تخليق أنموذج متفوق في قصصه القصيرة جدا، وقد تعاملنا مع القصص القصيرة جدا في مجموعتيه (واجهات براقة ورماد الاقاويل)، كنماذج تتوافق مع التأسيس الذي اجتهدنا فيه دون تجاوز المنطق العلمي للأدب، وتلك القصص المختارة تتوافق مع مجمل مناحي البناء الفني ?ي القصة القصيرة جدا، بل هي على المستوى الجمالي زادت عنصر المتعة وأضفت عليه اعتبارات استاطيقية وتشويقاً وسحراً، وكان أداء فرج ياسين متماسكا ومنتظما وبارعا ودقيقا ومحافظا على الطبيعة الفنية الحساسة.استثمر القاص تجربته العميقة ووعيه ورؤياه، لإكساب الشخصية في القصة القصيرة جدا ميزة العمق برغم انه لا يتجاوز سطح واقع النص، وأهل وعي الشخصية لاكتساب الغرابة أو يكون كما القارئ في تلقيه الصدمة او المفارقة، وكما لم ينمطه فكان ان تنوعت نماذجه الأساس، واستثمر ذلك التنوع، والذي أحيانا يغادر ايقونيا، لكن يبقى داخل الواقع?المؤهل للصدمة، ففي قصة (السيمــــــــــرغ)، هو قد استمد ايقونته من كتاب منطق الطير، لكنه أزاح عنها رمزيتها، واشبعها بروح واقع النص، وأحسن تحريك واقع النص نحو الصدمة، فكانت هناك مقومات اجتماعية متعددة تتحرك نحو الصدمة او المفارقة، فرواد البحث والصلاة والدعاء وتأهيل السطوح والأبراج، لكن النهاية تبدد كل هذا السعي وتفرغه من بلوغ النتيجة التي يهدف للبلوغ إليها، وبرغم أن أجيالاً عقبت سابقة وأعادت الاستعداد لعودة سيد الطيور الأثير، لكن المخاوف تنمو والقلق يربك الأحاسيس، فيرفض الناس عودة الطائر لأنها ستصدمهم مادام?ا لا يعرفون ما تغير إليه شكل الطائر، والقصة إضافة إلى المتعة، فهناك نسق ميثولوجي أغنى القصة وزاد من بهائها ولونها بريشات طائر السيمــــــــــرغ، ويندر ان تبتعد القصة القصيرة إلى أفق قصي قد يحتاج الى دعم من رموز ودلالات، لكن القاص فرج ياسين جعل الإطار الفني لبناء القصة القصيرة جدا أكثر سعة وبلا ممانعة في استيعاب النسق الميثولوجي، لكن دون خلخلة الإطار العام للقص، بل قد أضفى عليه رونقا وحيوية.
ان ظاهر القصة القصيرة جدا يبدي أن القصة محصنة وان ظروف السرد لا تمنع عنها بلوغ النهاية والنتيجة المرجوة، وان الموقف العام يبدو سليما، كون حركته محددة وقصيرة، وزاوية القص واحدة وقصيرة الأفق، لكن وان سمانا بهذا، لابد أن نقر بان هناك مهمة هي صعبة إلى حد ما، فأنت في القصة القصيرة التي تتيح لك تأهيل مقومات عدة والاستعانة بعوامل مساعدة، وأيضا تفترض ما لا يمكن افتراضه، لتبلغ النتيجة المرجوة لها، فيما القصة القصيرة جدا بمساحة الشخصية التي تتحرك على سطح أملس، وحدود الواقع الشكلية العالية سرعة الحركة نحو النتيجة، وا?تخدام الزاوية الواحدة للقص، وغيرها من المقومات التي تحتاج دقة وبصيرة، قد استطاع فرج ياسين ان يمنحها ثقة عبر تجربته القيمة ووعيه المنظم، وقدم نصه القصصي القصير جدا من خلال غلغلة تلك المقومات بين ثناياها كي يمكنها استيعاب فكرته، ورغم أن القاص في بعض قصصه، شخصيته الأساس تكون جماعية، كما في قصة (اعتصام) حيث طور القاص الحدث من خلال مجاميع أطفال التي هي تمثل فارقاً طبقياً وأبعاداً أخرى، واستثمر عدم سكون خيالهم الواسع، فجعله يتماهى داخل فضاء القصة، ولكن رغم ما كان من تطور في سير الحدث وتنامي الفعل السردي فيه،حافظ?القاص فرج ياسين على وحدة السرد المرتبطة بزاوية القص الاحادية، فلم تتداخل مجاميع الأطفال، بل توالي سرد كل مجموعة تختلف مع أخرى في مقطع حدث مسرود، وبذلك حافظت القصة على اطار الجنس، والنهاية كانت بدرامية عالية، ورسمت بوعي يتمثل بعامل إنساني، وعلى الأخص في أن تبقى مجموعة الأطفال الحفاة الذين نفروا من بين الجدران وفوهات الأزقة وأرصفة الشوارع العريضة المفتوحة، ودرامية المفارقة كانت ذات ميزة اعتبارية، لان القاص جعلها في السياق الموضوعي الذي يثير أكثر من الاستغراب والدهشة، وليس في حدود للضربة التي ترتبط بفعل سردي ?اتهم بمعناه، وإنما يهمها ما يؤديه من دور فني السمة، واتفق القاص في إدارة قصته التي مثلت جنس القصة القصيرة جدا تمام التمثيل من الجهة الفنية، ومن الجهة الأخرى كانت القصة تلويحاً واضح الملامح ببعد إنساني وبمضمون ادبي، وكان للشخصية الجمعية وعامل التفاوت الطبقي، ميزة قصصية، حيث عرف تميز القصة السبعينية وهيمنتها على إبراز عوامل التفاوت الطبقي، لكنها كانت تخفي احتجاجها بين ثنايا السرد، اما قصة (اعتصام)،فتميزها جمالي إضافة الى ابراز ذلك التفاوت ببعد انساني مشهود من خلال النهاية الرامية والمفارقة التي بها تلاشى ما ?ما من أحلام في أنفس الأطفال الحفاة مهلهلي الثياب، وللقاص: ان نقول انك منحت القصة القصيرة جدا إضافة إلى المتعة والنكهة الاجتماعية التندرية إبداء العامل الانساني معلنا ومشهودا، وهذا من النادر ان تجده حتى في القصة القصيرة. ان القصة القصيرة جدا تراعي الانموذج القصصي بعناية واهتمام، كونه أكثر تموضعا في ثنايا الواقع، وتتمثل ميزة ذلك الانموذج بدقة متناهية، بهدف مهم يرتبط بتطوير للشخصية القصصية، أي انها يمكن، ومن الأهمية ان تكون الشخصية كمادة بشرية، أي ان تكون من دم ولحم، وهي بذلك جزء حي من الوجود البشري داخل الن? وخارجه، هذا من جهة، ومن جهة اخرى تكون الشخصية شكل تندر وغرابة،وهذا التصعيد ضروري، كي يستحق اهتماما اكثر من التلقي، ولكن طبعا لاتبتعد الشخصية كما في القصة القصيرة عبرمزايا الترميز والبث الدلالي نحو افق قصي عن الواقع، وهذا ما تجده في قصة (الحصان)، والتي كانت غاية الأهمية كانموذج قصصي يتمل به الجنس تحديدا، فزاوية القص واحدة، وكذلك هذا ينطبق على الشخصية، وتسلسل الحدث الذي لا ينتهي الى نتيجته الطبيعية، بل ينتهي الى مفارقة بعدة ابعاد، وطبعا القاص تندر نيابة عن الشخصية التي لم يعد لها الا ان تحمحم بعد ان استعصى ?ليه النطق، والمفارقة حسية الطابع، لان الحصان بعد ان صار ايقونة شهرة وغنى، سال صاحبه: ان هو راض الآن، وطبعا يؤكد فرج ياسين في اغلب القصص على المضمون الانساني، وذلك يشكل أهمية كبرى في القصة القصيرة جدا، حيث التندر والسخرية لابد حس يقابلها، لا يجعلها تنحدر إلى عدم الرضا او القبول، والحس الأدبي في القصص التي من مجموعتي فرج ياسين، في عمق مؤثر ايما تاثير على كيان القصة والتلقي على السواء. الشخصيات تسمو في القصص، بتصعيد متواصل برغم سرعة السرد العالية وأحادية زاوية القص وليس تطمح ان تبلغ الأنموذج، بل هي تتموضع فيه?بمستوى استاطيقي وحس عال وإيقاع شجن، والأنموذج الحيوي يندر الا تجده في قصص فرج ياسين، وعلى وجه الخصوص ما اخترناه من قصص قصيرة جدا تتوافق مع مبحثنا النقدي بكل الاعتبارات الفنية.