ادب وفن

التشكيلي إبراهيم العبدلي: أميل إلى المحلية في أعمالي (1-2) / حاوره وديع شامخ

عندما تجلس مع الفنان والمعلّم والإنسان إبراهيم العبدلي، فأنك تشمّ رائحة بغداد، بأزقتها وشخوصها ومعالمها.. تحس بوجود العراق وإنسانه الأصيل، بطيبته ونقائه وحسه الجمالي والإنساني، تشعر أنك في نزهة تاريخية تستدعي التاريخ والذاكرة، ليسيرا جنبا إلى جنب بين أحياء الفحامة في كرخ بغداد، في أزفتها وشناشيلها، يستدرجك العبدلي بإنسيابيته الإنسانية وروحه البغدادية الخالصة إلى عوالم وحكايات تذكرك بحكواتي ماهر يعيدك إلى عوالم " ألف ليلة وليلة "،. انه رسام يستعيد رائحة الذاكرة عنوانا للجمال.
ولا يذهب العبدلي إلى ما هو أكثر من المكان: العراق، بغداد، " المترجمة فلسفته حيال دور الفن.. فهو " ناسك متعبد في محراب الأصالة وقيمها الجمالية "، لا يستطيع ركوب الموجة الحديثة، رغم أنه َدرسَ في جامعات الغرب وتخرج منها بدرجة ماجستير في التصميم، ولكنه عاد إلى لوحته، إلى، بغداده محملا بحنين كبير للعودة إلى الطبيعة، مطرزا إياها بتقنية التصميم، إبراهيم العبدلي كائن متعدد المواهب " فهو قاريء مقام وممثل، وكاتب درامي ومصمم.. وهو متخصص بالبيئة البغدادية.. يقول عنه الفنان الرائد الكبير فائق حسن عام 1989 وفي شهادة نقدية في أعمال العبدلي جاء فيها :" برهن الفنان الزميل إبراهيم العبدلي على إمكانياته الفنية المعروفة. ونلمس ذلك بمجمل أعماله الفنية، كما نلمس أيضا تقنية حساسة بمضمون أعماله التي أثبتتها التجربة والخبرة لسنين طويلة ". وكتب عنه الفنان الراحل إسماعيل الشيخلي:"العبدلي من أبرز فناني جيله، بما قدمه من أعمال رائعة، فهو فنان بغدادي تراثي شعبي أصيل بأسلوبه الواقعي الانطباعي المعاصر.
سألناه أولا:

نشأتَ في بيئة بغدادية.. هل لوفائك لهذه البيئة الحاضنة أثر على اتجاهك الواقعي في المشهد التشكيلي العراقي ؟

ولدت في كرخ بغداد وتحديدا في محلة الفحامة، المدينة الشعبية المعروفة، وكان لها أثر كبير في خزن الصور والذكريات الكثيرة، البيوت البغدادية بشناشيلها الخشبية كانت تسحرني لجمالها الفني وروعة معمارها الذي يتناسب مع مناخ بغداد وطبيعتها الجغرافية، كما كان للمقاهي وروادها الذين يرتدون الملابس البغدادية الشعبية المميزة، وخصوصا "الجرواية"، غطاء الرأس الذي يشبه رداء الملك كوديا السومري، كذلك الجسور والأسواق، الزوارق التي كنت ألاحظها بدقة عند ذهابي وإيابي إلى المدرسة.. كلها تركت أثرا خاصا في تشكيل ذاكرتي البصرية، ?ما أن زيارتي للريف العراقي وتحديدا إلى بساتين اليوسفية في العطل الصيفية أثرت أيضا في صداقتي الدائمة للبيئة والواقع العراقي المدني والقروي والتي ظهرت لاحقا في معظم لوحاتي واتجاهي الواقعي.

يمكن القول أنك رسام البيئة العراقية بامتياز؟

أنا فنان مديني وعضو في "جماعة بغداد للفن الحديث"، ولكني لم أختص بالبيئة العراقية أو البغدادية تحديدا، فعندما ذهبت للدراسة في لندن رسمت " محطة لستر ستيشن" لأنها معلم قديم من معالم لندن، ولشبهها مع آثار بغدادية مهمة مثل ساعة القشلة، وساعة سورين في البصرة، لأنني بصراحة أبحث عن بغداد في كل المدن التي أزورها.. إنها معشوقتي الأولى، لذا لم تعجبني معالم مدنية وعمرانية حديثة في سدني مثل الأوبرا هاوس، أحس في الأشياء القديمة، بالأصالة والإنسانية.

يتهمك البعض بأنك ابتعدت عن الحداثة في المشهد التشكيلي العراقي، وكنت أقرب إلى التصميم الذي درسته في لندن وحصلت على شهادة الماجستير في حقل التصميم ؟

أولا إن التصميم فن حداثوي، وأنا رسام قبل أن أكون مصمّماً والتصميم هو خلق أو إيجاد فكرة تتعلق بحياتنا العامة، نعم أنا درست التصميم في جامعة " مانشستر بولتكينك" في لندن ولكن الرسم سبق التصميم في تجربتي في المشهد التشكيلي العراقي، التصميم أفادني في تكوين اللون وتوزيع الكتل، والتصميم والرسم هما جناحا تجربتي الفنية عموما، وبهذا جمعت الموهبتين لغرض خدمة اللوح الفنية.. وهذا الموضوع تحدثت عنه الباحثة الزهراء صلاح عباس في اطروحتها الجامعية عن الشكل والمضمون في تجربتي. كما أنني اعتقد أن موضوع اللوحة يجترح الأسلوب، ولا أفرض الأسلوب على الموضوع، هناك لوحات أنفذها بأسلوب حديث مثل لوحة "نطاق العريس" وهي من أهم اللوحات الحديثة من ناحية المساحة اللونية والتقنية العالية في تنفيذها، كذلك تناولت موضوع الشهادة بشكل فني ورمزي وليس يشكل تعبوي مثل لوحة " زفة العريس".

أقصد أن اللوحات الواقعية غالبا ما تحمل قيمتها ك "ديكوريشن" تزيني أكثر من طاقتها الجمالية.

أنا أرى العكس تماما فالحداثة هي الديكوريشن .. رسامو التجريد مثل سالم الدباغ وهو تجريدي حديث يرسم بالأسود والأبيض والمقتنون لا يرون في أعماله فكرا ما وإنما تناسب ديكور المنازل والمحلات. كذلك رافع الناصري رسام كرافيك ولوحاته الحديثة فيها تدرجات لونية لا تحمل فكرا سياسيا ولا اجتماعيا، أنا درّستُ طلبة جامعة البتراء في الأردن " التصميم الداخلي" ومن ضمن المواد هي الأثاث، الحيطان، السيراميك.. وكيفية اختيارها وعلاقته باللوحة المقتناة.
وهناك الفنان العالمي " فازرلي" الذي أثر في الأزياء من خلال لوحاته والذي أصبحت موضة دخلت في عالم الأزياء. كما أن " موندريان " وهو فنان تجريدي أثر في العمارة كما أن العراقية "زها حديد" لها مدرسة خاصة بالعمارة.. فأنا أميل إلى العمارة الكلاسيكية.

عن الحداثة وضرورتها.. هل تعتقد أن الفنان لابد أن يمر بكل أدوار إستحالة الفن.. قديم. معاصر، حداثوي، ما بعد حداثوي.. الخ؟.

هناك الكثير من الفنانين تمسكوا بأسلوبه ولم يزالوا " وأنا وفائق حسن منهم " رغم قدرتنا على رسم التجريد والحديث، وهناك فنانون كانت اعمالهم الواقعية اكثر اهمية من تجاربهم في حقل التجريد مثل " فيصل لعيبي" و " وصلاح جياد" ولم يشكل التجريد لهم هوية شخصية، أنا أميل إلى المحلية، وكما يقول أستاذنا في الاكاديمية "اراتومنفسكي " البولوني إذ يقول : أذا اردتم ان ترسموا تجريدا فأرسموا تجريداً عراقياً.. استعينوا بالمحلية. وكذلك يمكن الإشارة الى تجارب " ماتيس" في شمال أمريكا، وتجربة بيكاسو مع الاقنعة الافريقية..والذي رسمه بشكل حداثوي..

انت متفرد في تنفيذ البورتريه بصيغته الكلاسيكية، الحرفية والأكاديمية. وهذا عمل كبير أثار إعجاب الجميع.. ولكن للفنانين المعاصرين منظوراً آخر للبورتريت حيث صاروا يبتعدون عن النسخ المطلق لصورة الاصل.. ومالوا الى التغريب والتصرف بتنفيذ البورتريت.. ما رأيك بهذا التحول الفني في حقل البورتريت ؟

أنا افتخر برسم البورتريت بطريقتي الخاصة إذ لا أشبه جواد سليم او فائق حسن من الرواد او غيرهم من الفنانين من الأجيال المختلفة مثل ناظم حامد و وليد شيت وفيصل لعيبي، كما أني ارسم البورتريت مع موضوع اللون البني وهي تقنية تفردت بها ونفذت الكثير من الاعمال بها ومنهم " الملك فيصل الثاني، محمد القبانجي، محمد غني حكمت... الخ" وارى ان البورتريت يتجنبه الكثير من الفنانين .. كما ان للبورتريت طرقا متعددة احترم من ينفذه بطريقته ورؤيته .. كما انني مستعد ان أتعلّم من الاخرين اذا جاؤوا بجديد، مثلما كان بيكاسو يتعلم من الاطفال لبراءتهم وعفويتهم.. والفنان الكبير لابد أن يكون إنسانا متواضعا أولا. واود ان اشير الى ان مؤسسة عويس قد اختارتني لرسم 11 شخصية شعرية أردنية فكان ان نفذت المطلوب بروح التحدي وبإسلوبي الخاص.

ما هو دور الفن من وجهة نظرك ؟

لم انجرف الى التيار التجاري الفني.. واعتقد انني لست سياسيا ولكن لي رأياً ولست مستقلا لانني أحب ان يكون للفن دور حيوي ومهم في المجتمع،ولا أؤمن بنظرية الفن للفن.. وانا استخدم فني حيثما أشاء وفي الزمان والمكان المناسبين دون ضغط من جهة ما.... ولم انتم الى حزب معين ابدا .. كما ان القنان وليد ظروفه وله دور جمالي وتزييني بالاضافة الى دوره الانساني..
وربما انا الرسام الوحيد الذي لم يرسم صورة شخصية تخدم النظام السابق ورفضت رفضا قاطعا عروضاً لرسم بورتريت للدكتاتور السابق وكنت محميا من قبل بعض الاصدقاء الذين جنبوني هذه المواقف المحرجة جدا والخطيرة على حياة الفنان آنذاك.. وانا راض عن تجربتي.